في علم العلاقات الدولية والفنون الإستراتيجية يوجد الكثير من النظريات التي انحدرت من أصول نظرية من علوم أخرى كالاقتصاد والإحصاء والرياضيات ونظم المعلومات وغيرها.
ومن هذه النظريات ما يسمى بنماذج الألعاب والتي منها نموذج نظرية الدجاجة Chicken Game أو أحياناً يطلق عليها بنظرية الصقر والحمامة Hawk -Dove. ويتم من خلال هذه النماذج توليد العديد من السيناريوهات التي يستخدمها الأطراف الداخلون في اللعبة أو المراقبون لهم من أجل فهم سلوكيات هؤلاء الأطراف.
وعلى الرغم من عمق هذه النظريات وتفعلها مع متغيرات متعددة، إلا أن ملخص نموذج نظرية الدجاجة دائماً يتم من خلال ضرب مثال لعبة التحدي بين سائقين لسيارتين يقودان مركباتهما بشكل متعاكس وبسرعة فائقة ومن ينحرف عن المواجهة في اللحظة الأخيرة يعتبر خاسراً ويطلق عليه لقب الدجاجة (الجبان).
أمام هذا السيناريو ثلاثة احتمالات، الأول المواجهة دون انحراف لكلا الطرفين والتي تعني فنائهما معاً (سيناريو الانتحار الجماعي) والسيناريو الثاني هو انحراف أحدهما وثبات الآخر في مساره المستقيم ما يعني انتصاره وهزيمة الطرف المنحرف، والسيناريو الثالث هو انحراف الطرفين بشكل مخفف ما يتيح مساحة لكل منهما من الادعاء بأنه المنتصر والآخر هو الدجاجة. في اطار أحد التطبيقات العملية للنماذج الرياضية والإحصائية فإن نسبة 84.17 ٪ من الحالات التي أُجريت عليها التجارب يقوم الطرفان بالانحراف ضمن السيناريو الثالث، ونسبة 15.23 ٪ ينحرف أحد الطرفين، ونسبة 0.6 ٪ يستمر الطرفان في الاتجاه المعاكس نفسه بثبات، بما يعني أن أقل من 1 ٪ يلجأ الطرفان للانتحار.
وقد بينت دراسات أخرى أيضاً بأن الخيار الأول المتمثل في انحراف الطرفين عن السير المعاكس في اللحظة الأخيرة يكون هو الخيار الأفضل وليس الأمثل للطرفين خاصة حينما تلوح فكرة ادعاء الانتصار وتحقيق الردع لكل منهما.
لقد حاول الكيان الصهيوني مقايسة ردة الفعل الإيرانية عبر هجومه على مقر القنصلية في سورية حيث تجاوز قواعد الاشتباك التقليدية وذلك لتحقيق أهداف عدة.
من هذه الأهداف هو معرفة مدى جدية إيران في المواجهة المباشرة، والهدف الثاني هو لتوسيع دائرة المواجهة إذا اختارت إيران اللجوء لردة فعل مباراة كي يتم توريط أطراف ثالثة في النزاع خصوصاً أميركا، وبالتالي تخفيف حدة الضغط الإعلامي والسياسي والعسكري والاقتصادي المتنامي ضده في حرب الاستنزاف في غزة، والهدف الثالث هو إثبات هزالة القوة الإيرانية خصوصاً أمام حلفائها وخصومها المباشرين إذا لم تقم بالرد.
من جانب الطرف الإيراني كانت الخيارات صعبة سواءً كانت في مسار الرد ومن عدمه، حيث لكل منهما تكلفته الباهظة، لذلك لجأت إلى تمديد فترة الرد والتلويح بها في محاذاة استنفاد الخيارات الديبلوماسية مثل إدانة مجلس الأمن لما قام به الكيان الصهيوني من اعتداء على مقر السفارة أو إيقاف الحرب على غزة كبديل لعدم الرد، بيد أن كل من ذلك لم يقنع الإدارة الصهيونية في حين أنه أعطى خياراً ثالثاً يتمثل في الرد المحدود والمبرمج بطريقة معلنة بحيث يحقق هدف الردع وفي الوقت ذاته لا يؤدي إلى تصعيد لحرب شاملة. ويبدو أن هذا الخيار مقنع لحلفاء الكيان الصهيوني وفي الوقت نفسه حلفاء إيران الكبار.
بعد هذه الضربات، ستكون الكرة في ملعب الإدارة الصهيونية، فإما انها ستقوم بالرد والسير في اتجاه التصعيد أو الاكتفاء بالادعاء بأنه قد تم التصدي للهجوم الإيراني الذي لم يسفر عن خسائر كبيرة كما قام به الإعلام العسكري الإسرائيلي فور انتهاء الهجوم الإيراني.
في المحصلة النهائية الراهنة على الاقل، وكما هو متوقع من سيناريو لعبة الدجاجة اكتفى الطرفان بالادعاء بأنهما قد ردعا الطرف الآخر وحققا نسبة من الانتصار وتهديد الطرف الثاني من عواقب وخيمة في حالة الاستمرار في التصعيد العسكري المباشر.
وبغض النظر عمن هو بالفعل قد حقق أهدافه، إلا أنه يمكن القول بأن إيران قامت بشكل غير مسبوق بالهجوم المباشر على الكيان الصهيوني وهذا بحد ذاته، وبغض النظر عما خلفه هذا الهجوم من خسائر فادحة أم بسيطة، إلا أنه يكشف النقاب عن انتقال الصراع إلى مرحلة جديدة قد تقود إلى نهايتين.
النهاية الأولى تتمثل في التصعيد المستمر لحين تحقيق الهيمنة لطرف على آخر، أو النهاية الثانية والتي ستفضي إلى اتفاق دولي لحل الدولتين.
يبدو أن الفترة من الوقت الراهن إلى بلوغ إحدى النهايتين ستكون حرجة جداً حيث تروج وتموج خلالهما مفاوضات وتحالفات وحسابات ومعادلات ذات انعكاسات أمنية واقتصادية وسياسية سترمي بظلالها على مربع السياسة الإقليمية خصوصاً بين دول الخليج وحلفائها أو شركائها الدوليين ما يستوجب إعمال التفكير الإستراتيجي العميق لخيارات الكويت الخارجية والداخلية والاستعداد لجميع السيناريوهات المقبلة، وهذا يتطلب بكل تأكيد الخروج من أزمة «الحفر» السياسية التي تواجهنا خصوصاً التي حفرها البعض في هذا الوطن الديموقراطي المسالم والمتسامح.