سيدي محمد باقر الصدر... في ذكراك لك مني السلام
صعب بل محال أن يختفي حينما يكون الحفر على الصخر، وهكذا هو الوصف تماماً حينما تتعلق أحبال أفكارك بما تعلمته منذ مرحلة الرشد. منذ أن كانت أعمارنا تتراوح ما بين الثامنة عشر والعشرين وفي خضم مرحلة مهمة في حياة الإنسان حينما يبدأ بسفر الخروج من ثقافة البيت إلى رحاب ثقافة جامعة الحياة، توالت علينا أفكار ومرت بنا شخصيات وتراءت أمام منظارنا مشاهد واستوقفت بين أيدينا كتب ومقالات، وكان لكل من تلك أثر ومكان يصغر ويكبر بحجم تأثيره في الوجدان قبل أن يكون في الذاكرة.
وبين هذا وذاك أيضاً، يميل الإنسان مترنحاً حسب مزاجه أو حبه أو عقله، ولكن ليس هناك شغف ولج في القلب ولا حكمة استقرت في صلب اللب كالذي أصابني به سيدي العالم الفخيم والمفكر الرباني السنيّ وسيد شهداء قرنه، آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، طيّب الله ثراه وحشره مع النبيين والصالحين.
فمنذ أن دخلنا اليفاعة الفكرية، كانت كتبه حاضرة بين الأيدي كزينة الخضاب والذهب بيد العرائس، وكتيجان الملك المرصّع على رؤوس الأحرار. لم تكن مؤلفات فكرية عادية، فقد كان لها سحر البلاغة، وكانت منها تصدر المدارك الكلية، وتعتمل بين ثنايا سطورها جزيئات منثورة تلمع كحبيبات نفائس الأحجار حيث تسلب الأنظار وتستجيب لها الأفئدة وتكتنزها العقول.
بعض من أبناء جيلي ممن تزاوجت الصدفة بلقائهم فولدت صداقتهم، كانوا في العموم ممن يقرأون الكتب والمجلات والصحف، وكان على رأس تلك القراءات كتب الإمام السيد الصدر، رحمه الله. شيء لا يوصف حينما تقرأ كتاب المدرسة الإسلامية والتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وفلسفتنا، واقتصادنا، علاوة على كتب كان يصعب علينا فهمها مثل الأُسس المنطقية للاستقراء فنحاول مكابدة عسرة الفهم بالاستناد إلى عالم فهيم.
لقد كان لهذا السيد الجليل والعالم المبجل أثر في تأسيس منهجية التفكير العلمي قبل أن يكون تأصيلاً للفكر الإسلامي القويم، وهذا هو الأهم. من هنا حيث يكون المنهج الذي يصنع منه المؤلف لقراءة حوار نقدي ومحاورين وإبداع ومبدعين، وليس فقط متأثرين وتابعين.
لقد غرس السيد الصدر في مجمل أطروحاته مُثل العلوم وقيم العلماء، وعلى رأسها تتوج الموضوعية والمصداقية والشفافية والصدق والتوازن والشجاعة والنبل والكرامة والبحث عن الحقيقة.
وقد كان السيد الصدر كذلك، فبالإضافة إلى خلقه وحكمته اللتين تسابقتا مع علمه ووقاره، فقد كان رجلاً نبيلاً شجاعاً ثابتاً صادقاً، وقد تجلى ذلك في تصديه لطاغية العراق صدام، بموقف فريد ندر على شهيد أو مجيد أن يتخذه، إلّا من أتى الله بقلب سليم سديد. وعجب عجاب في تلك المساجلة التي وقعت بين مدرسة يعسوب الدين، حيث تمثل السيد الصدر في مقابل جوقة غطريس النفاق ومجرم الزمان صدام.
هي ليست من المساجلات التي يمكن أن تعبر على سلم التاريخ دون أن يكون لخطواتها المتراتبة جلجلةٌ تحيي موت العبيد وتستعيد وعي السكارى، وتسقي قريحة الأحرار في زمن شحت فيه أنوار ملكوت روح الحرية أن تسطع إلا من بعيد.
فبعد أن بعث إليه طاغية العراق برسالة تختصر في طياتها عصا التعزير والوعيد بالفتك، وترهن هذه بمدى الرضوخ لشروط قارون وفرعون، أتت عليها رسالة الخلود التي عبر عنها السيد الصدر بمفردات كالمُهل حيث تصطب في قوالب الصلب، وفي كل قالب ألف موقف غالب. أتت كلماته رضوان الله عليه، مستلة من عبق القرآن وروح الإسلام وعمق الدين الحنيف، وتتجلى من رونقها كافة قيم الإنسانية، وهي تزدهر بالمعاني الشريفة العفيفة والخطوط التي لا تعرف الجبن أو الاستسلام لملهيات الدنيا، فكانت هي الحُكم والحَكم على مصداقية سيدنا الكريم، الذي بدأ رسالة الرد بهذه العبارة:
«قد كنت أحسب أنكم تعقلون القول وتتعقلون، فيقل عزمكم إلزام الحجة، ويقهر غلوانكم وضوح البرهان، فقد وعظتكم بالمواعظ الشافية أرجو إصلاحكم، وكاشفتكم من صادق النصح ما فيه فلا حكم، وابنت لكم من امثولات الله ما هو حسبكم زاجراً لكم لو كنتم تخافون المعاد... فأنتم والله كالخشب اليابس عتي على التقويم او كالصخر الجامس انأى عن التفهيم فما بعد ذلك يأس منكم. شذاذ الآفاق، وأوباش الخلق، وسوء البرية وعبدة الطاغوت وأحفاد الفراعنة، وأذناب المستعبدين.أظننتم أنكم بالموت تخيفونني وبكر القتل تلوونني، وليس الموت إلا سنّة الله في خلقه {كل على حياضه واردون} أو ليس القتل على أيدي الظالمين إلا كرامة الله لعباده المخلصين، فاجمعوا أمركم وكيدوا كيدكم واسعوا سعيكم فأمركم إلى تباب وموعدكم سوء العذاب لا تنالون من أمرنا ولا تطفئون نورنا».
ثم أنهى معلقته الخالدة بهذه العبارة التي شاهدت المستقبل بعين ترى من خلال نور الله:
«فوالله لن تلبثوا بعد قتلي إلا أذلة خائفين تهول أهوالكم وتتقلب أحوالكم ويسلط الله عليكم من يجرعكم مرارة الذل والهوان يسيقكم مصاب الهزيمة والخسران ويذيقكم ما لم تحتسبوه من طعم العناء ويريكم ما لم ترتجوه من البلاء ولا يزال بكم على هذا الحال حتى يحول بكم شر فأل جموع مثبورة صرعى في الروابي والفلوات حتى إذا انقضى عديدكم وقل حديدكم ودمدم عليكم مدمر عروشكم وترككم أيادي سبأ أشتاتاً بين ما أكلتم بواترهم ومن هاموا على وجوههم في الأمصار فولوا إلى شتى الأمصار وأورث الله المستضعفين أرضكم ودياركم وأموالكم فإذا قد أمسيتم لعنة تجدد على أفواه الناس وصفحة سوداء في أحشاء التاريخ».
فوّر تلألئ أنشودة الخالدين تلك، استشهد السيد الصدر بعد تعذيب قاسٍ ليلاقي وجه الله بدمه مظلوماً، وقد استشهدت معه أخته العفيفة الرزينة بنت الهدى، مقتولة شهيدة أيضاً ليرحلا ظاهرياً من وجه الطاغية ولكنهما في الحقيقة بقيا في قلوب الأحرار والمحبين والمؤمنين حتى دكا عرش الطاغوت، بمهر مكتوب على نعشه الهزيل «قد أمسيتم لعنة تجدد على أفواه الناس وصفحة سوداء في أحشاء التاريخ».
وبهده الكلمات الاستشرافية لم يكن السيد الصدر، أعلى الله مقامه في جنات الفردوس يصف حالاً وإنما يستشرفه هدياً من الله، حيث تزهق سنة الله الحق مخيلات طواغيت الباطل بكلمتين «والعاقبة للمتقين».
ومن مثواه، ها هو الإمام الصدر يخاطب الأمة فيما ابتليت به من مرض الطائفية البغيض حيث قال:
«وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تضمهم جميعا... فأنا معك يا أخي وولدي السّني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي... أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام، وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والذل والاضطهاد».
هكذا كان ولا يزال صوتاً للحق يصدح بأصدائه عبر سلسلة الزمن مخترقاً رقعة المكان، وهكذا كان باقر الصدر فينا فاستحق أن يبقى في ضمائرنا حياً، باقر الصدر لك منا سلاماً أي باغ سقاك الحماما أنت أيقظتنا كيف تغفو أنت أقسمت أن لن تناما.