اتجاهات

اليمينية الشعبوية والديموقراطية الغربية

تصغير
تكبير

تواجه الديموقراطية الغربية تحدياً خطيراً بسبب الصعود المتوالي في شعبية الأحزاب والتيارات اليمينية الشعبوية منذ 2010.

ففي أميركا وصل ترامب إلى البيت الأبيض، وعلى الأرجح سيعود ثانية في 2024. وفي أوروبا، اكتسحت هذه التيارات في بعض البلاد كالمجر وهولندا والتشيك وإيطاليا. وبحسب المفوضية الأوروبية، بات اكتساح تلك الأحزاب في أكثر من عشر دول أوروبية أخرى، مثل فرنسا وألمانيا وفنلندا قريبا جداً، على الأرجح وفقاً للمفوضية في عام 2025.

والسؤال البدهي الذي تجب إثارته. لماذا تشكّل تلك الأحزاب تهديداً للديموقراطية الغربية بالرغم من انتصارها عبر الآليات الديموقراطية الشرعية أو صناديق الانتخابات؟. بل والأدهى من ذلك، هو سقوطها أو تراجع شعبيتها عبر الصناديق أيضاً. فترامب مثلاً هزم في انتخابات 2021، والتيارات الشعبوية تراجعت بشكل ملحوظ في إسبانيا مقابل صعود التيار الاشتراكي.

إن هذا الكلام يبدو صحيحاً نظرياً، لكن تحت السطح تتبدى أمور أعمق. بادئ ذي بدء، يرى جل المتخصصون في ما يسمى ظاهرة ما بعد الديموقراطية، أن الصعود القوي لهذه التيارات يشير أو يعكس بلا مجال للشك بوجود أزمة عميقة تعاني منها الديموقراطيات الغربية. بل في حقيقة الأمر، تمرد شعبي واسع آخذ في التنامي على الديموقراطية والقيم الليبرالية ذاتها.

تتبنى هذه الأحزاب أفكاراً وخطابات في ظاهرها وجوهرها تتعارض تماماً مع الديموقراطية وأُسس القيم الليبرالية. إذ تشترك هذه الأحزاب بمختلف أطيافها في أفكار متشددة أبرزها معاداة حقوق الأقليات والمهاجرين، العداء للإسلام والمسلمين تحديداً، معارضة الاتحاد الأوروبي وانضمام أعضاء جدد فيه، التعصب القومي الشديد (نحن أولاً)، ومناهضة النيوليبرالية الاقتصادية. والبعض منها كحركة الخمسة نجوم الإيطالية، تكن عداءً كبيراً للنظام المؤسسي والدستوري الإيطالي، وتدعو إلى تغييره.

والصعود القوي لهذه الأحزاب منذ 2010، لم يأت من فراغ، إذ كانت موجودة لكنها لم تكن تحظى بشعبية تذكر. بل كان يتعرض قادتها في بعض الأحيان وفي بعض البلدان للملاحقات القضائية بسبب أفكارها المتطرفة. لكنها صعدت على ظهر قاعدة أو حاضنة شعبية جاهزة ساخطة على الديموقراطية والنخب التقليدية والمؤسسات الراسخة، بدأت تتشكل وتتوسع منذ 2008.

وهذا التمرد الشعبي الغربي على الديموقراطية، يعزو إلى ثلاثة أسباب رئيسية ترافق حدوثها منذ 2008 وصاعداً. الأول أزمة التمثيل وأبرز ملامحها هو هيمنة نخبة ضيقة على الأحزاب التقليدية الراسخة في أوروبا، وحرمان الأجيال الشابة من فرص التمثيل والصعود. والثاني، المظالم الاقتصادية الواسعة الناجمة عن النيوليبرالية المتوحشة والتي أدت إلى تفشٍ حاد للفقر والبطالة في الدول الغربية. والثالث، مخاوف فقدان الهوية «اندثار الرجل الأبيض» جراء تزايد أعداد المهاجرين والأقليات بصورة كبيرة، ومزاحمة الرجل الأبيض في فرص العمل الجيدة والخدمات العامة والرعاية الصحية.

وبطبيعة الحال، أعطى صعود الأحزاب اليمينية والشعبوية دفعة قوية لتلك القاعدة أو «قاعدة الرجل الأبيض»، وزيادة عددها أيضاً كنتيجة لاستمرار بواعث زيادتها، خاصة فشل الأحزاب التقليدية وحكوماتها في التصدي للأزمة الاقتصادية، وأزمة الهجرة والمهاجرين. لكن يبقى الخطير في الأمر، هو الانعكاسات الخطيرة على الديموقراطية الغربية جراء الصعود المتنامي لهذه الأحزاب.

وهذا ما تشير إليه أحدث تقارير المنظمات الأوروبية في عام 2024، حيث أكدت على تراجع ونكوص حاد في الديموقراطية الغربية بسبب الوجود القوي لتلك الأحزاب. كما عددت مظاهر كثيرة على تفشي الكراهية والعنصرية والانقسام المجتمعي والحزبي المتزايد بسبب زيادة شعبية تلك الأحزاب وأنصارها.

ففي أميركا على سبيل المثال، يشهد المجتمع حالة من الانقسام الحاد، وتنامياً حاداً أيضاً في العنصرية والكراهية من قبل البيض تجاه العرقيات المختلفة خصوصاً السود والمسلمين. كما تعاني الديموقراطية الأميركية حالة من الفوضى بسبب الانقسام حول أهلية ترامب للترشح. وما حادثة اقتحام مبنى الكابيتول ومقتل جورج فلويد، إلا أمثلة بارزة لمدى التدهور في الديموقراطية والليبرالية الأميركية الراسخة. وأُسوة بأميركا، تشهد أوروبا حالات متزايدة من التنمر العنصري يصل في بعض الأحيان إلى اعتداء جسدي. فضلاً عن تشديد تشريعي على حقوق الأقليات.

خلاصة الأمر، تعانى الديموقراطية الغربية من أزمة خطيرة فعلية جراء الصعود القوي للتيارات الشعبوية اليمينية؛ ستؤدي حتماً إلى تآكل تام في قواعد الديموقراطية وأسس الليبرالية. والمشكلة الأساسية تكمن في أن بواعث صعود الشعبوية لا تزال حاضرة بقوة، والتي من أهمها هو التمرد الشعبي على أُسس ومبادئ الديموقراطية والليبرالية الراسخة. كيف ستحل الدول الغربية هذه المعضلة العويصة؟ سؤال من العسير الإجابة عنه.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي