No Script

رثاء

موضي السور روحاً... كانت لنا روح

أحمد مشعل المطيري
أحمد مشعل المطيري
تصغير
تكبير

مرّت السنة الأولى، ووالله لا أعلم كيف مرّت، فمنذ ذلك اليوم لم أعُد كما كنت قبله، وكأن ساعة الحياة بالنسبة لي توقفت عند تلك اللحظة، في تمام الساعة الثانية عشرة والنصف من ظهر ذلك الخميس الذي لن أنساه ما حييت، تاريخ 30/03/2023 الموافق الثامن من رمضان 1444 هـ، شهرها المحبب والقريب لقلبها، ذلك الشهر الذي طالما ردّدت وتمنت إذا كتب الله لها الوفاة، أن يكتبها في ذلك الشهر الكريم، الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُصفّد فيه أبواب النار، فاستجاب لها المولى سبحانه وتعالى وحقّق لها تلك الأمنية.

كل شيء حدث فجأة، من بداية التعب المفاجئ، إلى الانتقال إلى المستشفى، إلى عدم قدرة الأطباء على التشخيص الصحيح، حتى انتكاس الحالة وغمضة العينين، ثلاثة أسابيع مرّت كثلاث سنوات علينا جميعاً، تمنيت لو أن باستطاعتي إيقاف عقارب الساعة بأي طريقةٍ كانت، ولو لأيامٍ معدودة، حتى أستطيع استيعاب ما تراه عيناي، مع أنني أعلم علم اليقين بأنني لو أوقفتها لسنين لن أمر إلا بنفس الشعور.

مرّت الأيام بثقلها، حتى جاء ذلك اليوم، اليوم الذي خشيته طوال حياتي، وطالما دعوت ربي في كل سجدة أن يُبعده طويلاً، لكنها سُنة الكون وإرادة الله سبحانه، فالحمدلله على قضائه وقدره ولا اعتراض على قدر الله.

دخلت لأودّع قطعة من روحي، فرأيت ذلك الوجه المنير، الوجه الباسم كعادته، أم الخير، أم الوصل، أم العطاء، أم المرجلة والمراجل، أم العطف والحنان، أم الأيتام والفقراء والمساكين، أمي وعزي وفخري موضي برجس السور عسى عظامها للجنة.

كانت لنا نِعم المعلم والمربي في كل أمور حياتنا، ديننا ودنيانا، فعلى الرغم من أنها كانت امرأة أمية لا تقرأ ولا تكتب، إلا أنها كانت جامعةٌ في الحياة، فكل مَنْ جالسها لا بد أن يكون قد تعلّم منها ولو القليل. فقد كانت توصينا بالدين أولاً ومن ثم الوصل والإحسان وحُسن الخُلق مهما بلغت الإساءات من الغير، «الطِّيب يغلب الطبيب» كما كانت تردّد دائماً.

في كل مرة كانت تضيق عليّ الدنيا لأي سببٍ كان، كانت جملة (هلا بأمي وطوايفي) بنبرة صوتها كفيلة بتغير الحال، تلك النبرة التي لم ولن تغب، فمازال صدى كلماتها يتردّد على مسامعي، فقد كانت لي الأب والأم، والخال والعم، والصديق والحبيب، والملجأ، والحضن الذي أرتمي به رامياً كل ما في صدري، وخلال ثوانٍ، يختفي كل ذلك، وكأنها سحبت الضيق بطاقتها وتطبطبها وحديثها المليء بالحب والحنان والعطف ورحابة الصدر.

وبعد خروجنا من المستشفى لنقل جثمانها الطاهر لبيتها، بيت العز، بيت خيطان لتتم مراسم التجهيز قبل التوجه للمقبرة، تفاجأنا بوكيلها (ابنها البار) سليمان الشيخ (أبوياسين) وبيده تلك الحقيبة الصغيرة ليسلمها لنا قائلاً: هذه أمانة وجب تسليمها لكم.

فتحناها، وإذا بجميع مستلزمات تغسيل الميت وتكفينه بداخلها، فهي مَنْ قامت بتجهيز نفسها بنفسها لذلك اليوم، اليوم الذي قضت طوال حياتها تستعد له أتم الاستعداد من منطلق إيمانها الثابت الذي لم يتزحزح يوماً بفضل الله، كما وجدنا أيضاً بداخلها مغلفاً صغيراً وبداخله مبلغ من المال وورقة كُتب عليها:

يا مغسلات الميتة استرنِّي

ذرِّن عليَّا جعل تسلم ايديكن

واليا قلبتنِّي لا توجعنِّي

مصير ما جاني يبي يجيكن

واليا استلمتن حقكن بايحنِّي

في سنّة الأجواد حقي عليكن

كان وقع تلك الأبيات كالصاعقة علينا جميعاً، فأم علي -رحمها الله- حتى في وفاتها أرادت تلقيننا أعظم الدروس وأعمقها.

فأي امرأة تلك التي تستعد لموتها بتلك الطريقة؟

أي امرأة تلك التي حتى إكرامية المغسلات أرادت تسليمها لهنّ بنفسها؟!

أي امرأة تلك التي حتى وهي على فراش الموت لم تغب عن بالها وقلبها صلاتها؟

فقد كانت -رحمها الله- في الأيام الأخيرة تفتح عينيها، تسألنا عن الساعة، نجاوبها بالوقت، نجدها تسأل عن الفروض، وتطلب الصعيد الطيب لتتيمم وتؤدي فرضها، فحتى في أحلك الظروف، كانت صلاتها وعلاقتها بربها أول أولوياتها.

حبها لله والدين وكل ما يتعلق بالإسلام لا مثيل له، فكانت تحرص كل الحرص على المساجد وإعمارها في شتى بقاع الأرض، كما تحرص على مشايخ الدين وعلماء الأمة، وتحرص على بذل كل ما تستطيع لخدمة الدين الإسلامي، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، وشهد لها بذلك القاصي والداني، من مشارق الأرض ومغاربها، فتارة تصلنا خطبة في أحد مساجد تركيا عن مآثرها، وتارة تصلنا مقاطع لمقابلات إذاعية بقطر تتحدث عن مناقبها، وتارةً مقالات نُشرت بالصحف والمجلات من داعيات فاضلات عن محاسنها، والكثير الكثير من الرسائل من اندونيسيا واليمن والصومال والسودان وأفريقيا كافة.

قارة أفريقيا، تلك القارة السوداء التي شاء المولى سبحانه أن يكُن لفقيدتنا الغالية دور رئيسي في نشر الدعوة الإسلامية فيها على يد الداعية د.عبدالرحمن السميط رحمه الله والشيخ طايس الجميلي حفظه الله وصحبهم الكرام، جمعنا الله وإياهم بفردوسه الأعلى.

تلك المرأة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، شاء الله سبحانه أن يكتب لها أجر المشاركة بنشر الدعوة الإسلامية وفتح قارة كاملة من خلال دعمها المبارك والبذرة الأولى لجمعية العون المباشر التي أسلم على يدها الملايين، شكر الله جهودهم وتقبّل منهم وكتب لهم الأجر إن شاء الله.

هنيئاً لك يا حبيبتي هذه السيرة العطرة.

هنيئاً لك محبة الناس ودعاءهم الذي لم ولن يقف.

أسأل الله جلَّ في علاه أن يجعل قبرك روضةً من رياض الجنة، وأن يبدلك داراً خيراً من دارك وأهلاً خيراً من أهلك، وأن يجازيك بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً، وأن يسكنك أعالي جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسُن أولئك رفيقاً.

جرح فقدك عميق، ولن يبرأ أبداً، لكن عزائي أنها سنون، طالت أم قصُرت، وسيجمعني الله بك إن شاء الله على سُررٍ متقابلين.

نامي قريرة العين يا فقيدتي، فجميعنا -إن شاء الله- على نهجك ودربك سائرون.

والحمدلله رب العالمين.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي