من حرب الجنوب إلى البحر الأحمر و«الموائد المسمومة» في السياسة

في لبنان... إطباقُ الأزمات على الأطباق الرمضانية

تصغير
تكبير

يكاد أن يُطْبِقَ حَبْلُ الأزمات في لبنان على الطبَق الرمضاني... أزماتٌ داخليةٌ متناسلةٌ، في مقدمها الانهيارُ المالي المتمادي وتَبَخّرُ القدرة الشرائية للسواد الأعظم من اللبنانيين، وأزماتٌ إقليميةٌ متسلسلةٌ جعلتْ جنوبَ البلاد ساحةَ حربٍ، دون أن ينجو الوطنُ الصغير بأسْره من شظايا المواجهة الدائرة في البحر الأحمر، إلى جرائم الإبادة في غزة وتوتّرات المنطقة.

وفي حين يلهو لبنان بالطبَق السياسي و«موائده المسمومة» على طاولة فراغٍ متوالٍ في كرسي الرئاسة الأولى، تُرك الطبَقُ الرمضاني أسيرَ غلاءٍ غير مسبوق وجشعٍ «لا يَشبع» صار معه السؤالُ عن صحن الفتوش ومشتقات الحليب والصنوبر والحلويات و«أخواتهم» حديثَ الصالونات في الشهر الفضيل، وسط مبادراتٍ أهلية لتبديد غَصة عائلاتٍ لسانُ حالها العين بصيرة واليد قصيرة.

أرقامٌ يتداولها الإعلام حول تكلفة صحن الفتوش، هذا الطَبَق الرمضاني الشهير الذي لا غنى عنه لبدء الإفطار، واعتاد اللبنانيون اعتباره مؤشراً لِما ينتظرهم من غلاء في رمضان المبارك. ولكن هل هي أرقام واقعية تعكس التكلفة الحقيقية لوجبات الإفطار أم أن فيها الكثير من المبالغة والتهويل؟ وفي ظل ما يتم تداوله من أرقام، كيف تستطيع العائلات تأمين متطلبات الشهر الفضيل وما الذي ينتظرها على امتداده؟

حماية المستهلك

وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني أمين سلام جال مع مديرية حماية المستهلك على الأسواق والمتاجر ومحال الخضار ليعاين الأسعار على الأرض ويعلن أن ثمة محالاً رفعت أسعارها بنسبة 30 في المئة متحجّجةً بمشاكل النقل في البحر الأحمر وتكلفة الشحن. لكن الوزير أدرك ان تلك حجج غير مقبولة ولا تستدعي هذه الزيادة، وقد وعد اللبنانيين بجولات أسبوعية خلال رمضان لضبط الأسعار، مؤكداً معاقبة كل مَن يُخالف القوانين ويرفع أسعاره عن جشع ورغبة في الربح السريع.

وبعيداً عن عيون الكاميرات يبدو الواقع مغايراً، والقدرة على المراقبة ضعيفة. «الراي» كانت لها جولة استطلاعية مع الشيف سليمان الخوند، وهو صاحب مطبخ مختص بإعداد الوجبات اليومية والإفطارات الرمضانية وعلى تماسٍ يومي مع الواقع الصعب وما ينطوي عليه من ارتفاع تكلفة إعداد الأطباق الرمضانية، وأضاءت معه على حال ربات البيوت في هذه الأيام العصيبة وسعيهنّ المُضْني لإمساك الحبل من طرفيه.

غلاء غير مسبوق

ويقول الشيف سليمان: «يشهد رمضان هذه السنة غلاء غير مسبوق بعدما ارتفعت الأسعار أضعافاً عما كانت عليه العام الماضي بالنسبة لغالبية مكونات الأطباق الرمضانية وما يحوط بها من متطلبات. وفي حين كانت ربة البيت سابقاً قادرة على إعداد إفطار رمضاني لستة أشخاص بتكلفة تقارب عشرين دولاراً فإنها اليوم تحتاج أقله الى 30 دولاراً لإعداد الوجبة ذاتها، وإذا احتسبْنا التكلفة على 30 يوماً نجد أنها تعادل 900 دولار، هذا إذا اكتفت العائلة بأفطارٍ منزلي مختصَر ولم تدعُ العائلة الأكبر أو الأصدقاء إلى مائدة رمضانية».

ويضيف: «حين نعطي هذا الرقم، فإننا لا نذهب نحو الخيارات المرهفة الرفيعة بل نتحدّث عن صحن فتوش وحساء وبعض المقبلات وطبق من الدجاج او اللحم مع استعمال مواد دهنية ذات نوعية جيدة وأصناف جيدة من الأرز والبقوليات وطبق واحد من الحلويات. وهنا نستثني الأسماك التي تُعتبر وجبة فاخرة تزيد من كلفة الطبق الرمضاني. وكلما ازداد عدد أطباق الحلويات ارتفعت معها تكلفة الإفطار نظراً للغلاء الساحق لمشتقّات الحليب مثل القشطة والجبن والكريما إضافة الى البيض والطحين والمواد الدهنية من سمن وزيت وزبدة، وكذلك السكروالشوكولا وغيرها، هذا من دون أن نذكر الصنوبر والمكسرات التي ازدادت أسعارها بشكل يفوق الخيال. ويمكن تقدير كلفة طبق الحلو الواحد بـ 600 ألف ليرة (نحو 7 دولارات) أقله».

ومع احتساب تكلفة صحن الفتوش بشكل غير رسمي لستة أشخاص بما يقارب 600 ألف ليرة بسبب ارتفاع أسعار الخضار على أنواعها والخضار الورقية، لا شك في أن ثمة عائلات في لبنان باتت غير قادرة على تحمل فاتورة الإفطار الرمضاني وستتجه مرغَمة إلى اعتبار الإفطار وجبة عادية فتتناول بعد الصيام ما اعتادت أن تأكله من وجبات في أيامها العادية، وهي بالكاد تستطيع تأمين تكلفتها. وهنا يُمكن أن يكون الاتجاه نحو تناول الأطباق التي تتضمّن البقوليات مثل العدس والفول والحمص والفاصوليا التي رغم ارتفاع أسعارها تبقى طبقاً قادراً على إشباع عائلة بأكمله.

ويؤكد الشيف سليمان الخوند «أن فاتورة الإفطار لا تتوقف على المواد الغذائية، بل يجب احتساب كل ما حوله من تكلفة مياه وغاز ومواد جلي وتنظيف ومحارم ورقية التي تساهم كلها في إثقال كاهل العائلات بتكاليف باتت عبئاً عليها».

«جشع»

وفي جولة على الأسواق اللبنانية يتبيّن أن أسعار الخضار بشكل خاص ارتفعت منذ بداية رمضان المبارك في شكل ملحوظ وذلك لأسباب عديدة أوّلها تَهافُت الناس على شراء هذه الأصناف استعداداً للشهر الفضيل، وثانيها كما يقول الباحث الاقتصادي رضوان جمول لـ «الراي» جشع التجار «لتحقيق أقصى ربح ممكن والاستفادة من كثرة الطلب في ظل عدم وجود سلطة مراقبة ومحاسبة، إذ لا مبرر اقتصادياً حقيقياً لارتفاع الأسعار، فالموسم الزراعي لم يتعرّض لنكسات هذا العام وكان الطقس مؤاتياً للإنتاج، أما المخازن فملأى وذلك بعد ارتفاع نسبة الاستيراد. والتجار يحاولون إيجاد مبررات لرفع الأسعار في حين ان الواقع الحالي لا يبرر الارتفاع».

ويرسم الباحث في الشؤون الاقتصادية صورةً للواقع الرمضاني ليست شديدة السواد ويقول إن الأرقام المتداولة لا تخلو من المبالغة وتحتاج الى تدقيق «فلا شك في أن أسعار السلع ارتفعت لاسيما الخضار والفاكهة، ولكن كل العائلات قادرة على إعداد إفطار رمضاني، وذلك لأن غالبية اللبنانيين باتوا يمارسون أكثر من عمل أو وظيفة واحدة، وساهم تعديل الرواتب في تحسين الوضع المعيشي للموظفين. لكن ما يمكن قوله إن المجتمع اللبناني بات مقسوماً إلى فئتين: مَن لديه مدخولاً بالدولار، ومَن يتقاضى راتبه بالليرة. ويَختلف النمطُ الاستهلاكي للأُسر بحسب انتمائها إلى إحدى هاتين الفئتين».

ويضيف: «لا شك في أن الفئة التي لايزال مدخولُها بالليرة، وفي ظل التضخم الذي لا ينفك يزداد سنة بعد سنة، لم تعد قادرة على تغطية كل احتياجاتها. لكن نظام التكافل والتضامن في لبنان يخفف العبء عن العائلات المحتاجة. وفي شهر رمضان المبارك تتهافت الجمعيات والمؤسسات على تقديم المساعدات والوجبات التي تتيح لكل عائلة إتمامَ إفطارها بشكل لائق. وقد لاحظْنا هذه السنة وجودَ العديد من المبادرات المفيدة بحيث يجول شبان وشابات على المطاعم والإفطارات الكبرى لجمْع ما يتبقى من أطعمة فيها وإعادة تأهيلها لتقديمها بشكل لائق الى العائلات. وهكذا يمكن الاطمئنان الى أن غالبية العائلات في لبنان مغطاة بهذا الشكل».

وفي محاولته لاحتساب تكلفة الوجبة الرمضانية، يقول جمول إن من غير المنطقي الحديث عن أرقام ثابتة «فالوجبة يمكن أن تصل تكلفتها الى 30 دولاراً كما يمكن تأمين وجبة مقبولة بـ 10 الى 15 دولاراً».

أما بالنسبة الى ارتفاع الأسعار، فقد أصدر المكتب الفني لسياسة الأسعار في المديرية العامة للاقتصاد والتجارة التقرير الأسبوعي حول جدول الأسعار في الأسبوع الأول من رمضان مقارنةً مع الأسبوع الذي سبقه ويتبيّن أن ثمة ارتفاعاً يراوح ما بين واحد و5.9 بالمئة بالنسبة الى غالبية المواد مع بقاء بعضها على حاله وانخفاض بسيط في بعضها الآخَر ولكن بمعدل إجمالي بلغ واحد في المئة بالنسبة الى مجموع المواد الغذائية من لحوم ومشتقات ألبان ومعلبات وخضار ومواد غذائية متفرقة.

تباين كبير

ولكن هذه الأرقام الأكاديمية تَسقط في الأسواق وعلى أرض الواقع، إذ ثمة تباين كبير بين أسعار الأسواق الشعبية والتعاونيات الكبرى وأسعار المحلات الصغيرة والسوبرماركت الرفيعة المستوى. وهنا كل شيء أغلى «بحجة النوعية» كما يقول رواد السوبرماركت.

وأي كيلو خضار يُمكن أن يتفاوت سعرُه بنحو 100 ألف ليرة وأكثر بين محل وآخَر أو منطقة ومنطقة. وتقول إحدى السيدات: «يجب أن نشتري من وزارة الاقتصاد إذا كانت الأسعار التي توردها صحيحة. ففي المحلات الأسعار نار وقد لمسْنا ذلك لمس اليد. غالون المياه الذي نشتريه للشرب ارتفع سعره 50 ألف ليرة مرة واحدة، وربطة البقدونس البسيطة ارتفعت بنحو 40 بالمئة».

ويقول أحدهم في الإطار نفسه: «لسنا قادرين على التوجه الى الأسواق الشعبية للحصول على الأصناف بأسعار أرخص لأن تكلفة البنزين للوصول الى هناك توازي ما يمكن توفيره في الأسعار. وهذا ليس الحل، بل لا بدّ من مراقبة الأسعار وتسطير محاضر ضبْط بحق مَن يرفعها دون وجه حق. سعر الدولار ثابت فلماذا ترتفع الأسعار»؟

غالباً ما تعود الأسعار الى معدلاتها الطبيعية بدءاً من أواسط شهر رمضان ولكن مَن يضمن ذلك في لبنان؟ ويكفي إلقاء نظرة على التفاوت الكبير بين معدل أسعار العام الماضي والسنة الحالية لإدراك نسبة التضخم الهائلة التي «حقّقها» لبنان في سنة واحدة.

في السياق، يورد الباحث جمول بعض الأرقام حول الفروقات، ليتبيّن أن أسعار الخضار الطازجة مثلاً ازدادت بنسبة 110 بالمئة عن العام الماضي، فيما وصلت نسبة الارتفاع الى 139 بالمئة بالنسبة للفاكهة و56 بالمئة للحوم و34 بالمئة للبيض والحليب ومشتقاته.

أما الطحين فارتفع في سنة واحدة 69 بالمئة ولم يَستثن الارتفاع الحبوب والأرز والمنتجات الدهنية... وهل يُمكن ان نتخيل أن سعر ربطة البقدونس ازداد بنسبة 187 بالمئة عما كان عليه قبل عام؟

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي