رمضان يحلّ دامياً على غزة من دون بوادر لوقْف القتل...

تصغير
تكبير

ردد الرئيس الأميركي جو بايدن مرات عدة أن «وقف إطلاق النار سيتحقق قبل بداية شهر رمضان» ليتراجع عن مقولته كاشفاً قلة تأثير واشنطن على حكومة تل أبيب الحالية، وليحلّ الشهر الفضيل دامياً على سكان غزة الذين أصبحوا يُقتلون بطرق شتى: إما بالقصف وإما القنص وإما الجوع وإما من خلال المساعدات الغذائية الهابطة من السماء على رؤوس الفلسطينيين الجياع.

فلماذا فشلت المفاوضات؟ ولماذا مازال وقف إطلاق النار بعيد المنال؟ وأين تكمن الخلافات؟

لا يمكن تحقيق وقف إطلاق نار ما دامت لا توجد إنجازات وانتصارات في ساحة الميدان من قبل أحد الطرفين ليستطيع فرض الشروط على الآخَر أو على الأقل إحداث تغييرٍ ما يخدم المفاوضات للتنازل عن بعض المواقف المتشددة على المقلبين.

وإذا كان لدى المقاومة الفلسطينية خطوط حمر لا يمكن التنازل عنها، فمن الممكن التفاوض حول أعداد الأسرى لدى الطرفين وإطلاق سراح البعض بحسب أعمارهم وجنسيتهم (المزدوجة) وحالهم الصحية، وهذه نقطة تشكل أرضيةً مشتركة يستطيع الطرفان إيجاد حل لها.

فبالنسبة للدول الأجنبية، لديها مخطوفون تريد استعادتهم بأسرع وقت وخصوصاً أميركا التي يرغب رئيسها - كما وَعَدَ في خطابه الأخير أمام الكونغرس - في رؤية الأسرى الستة الأميركيين - الإسرائيليين الأحياء (اثنان آخران قُتلا بالقصف الإسرائيلي) يعودون إلى وطنهم ليسجل انتصاراً انتخابياً ويلتقط الصور معهم وليفي بوعده. وكذلك لفرنسا ثلاثة من حاملي الجنسيات المزدوجة بين الأسرى لدى المقاومة.

وقد جرى تفاهم أولي يقضي بإطلاق سراح الأسرى المرضى مقابل أسرى فلسطينيين من أعمار وأحكام مختلفة. ومن هنا، ولأن الافراج عن الأسرى والتبادل سيحصل على 3 دفعات، فإن باب التفاوض يُعتبر مرناً في هذه النقطة ما دام الطرفان استطاعا التقاطع على إجراء تبادل بين الأسرى عاجلاً أم آجلاً ودفع الثمن حتى ولو مرّ زمن طويل على عملية الأسر.

ولكن النقطة الأهم الأكثر تعقيداً لا تتعلق بالأسرى خصوصاً في المرحلة الأولى التي تطالب أميركا بإنجازها وتريدها المقاومة أيضاً. فإسرائيل لا تريد إعطاء أي تنازل ما يؤدي إلى إفشال المفاوضات برمّتها، كما يقول المجتمع الإسرائيلي ويؤكد عليه العديد من المسؤولين الحاليين والسابقين.

وبالنسبة للمقاومة، لا داعي لوقف إطلاق النار لمدة 6 أسابيع ليرتاح جيش الاحتلال ويعاود تنظيم صفوفه ويعود المستوطنون إلى منازلهم في غلاف غزة ويخفّ الضغط على الاقتصاد الإسرائيلي. فـ «استراحة ما قبل الموت المؤكَّد» تقدّم لهذا الجيش فرصةً أفضل ليقتل الفلسطينيين بعد 42 يوماً بالشراسة نفسها وبعد أن تؤمّن أميركا الخِيَم اللازمة والرصيف البحري المفترض إنشاؤه قريباً، وهذا من شأنه أن يسمح لإسرائيل بتجهيز منطقة جديدة داخل غزة لمخيم فلسطيني مستحدَث يأوي أكثر من مليون ونصف المليون مهجّر موجودون اليوم في رفح ولآخرين سيهاجرون من مناطق عدة بعد أن يكثف الجيش هجومه على الشمال من جديد وكذلك على الجنوب خصوصاً خان يونس، المدينة والمخيم، والمناطق المحيطة بها.

وبحسب المعلومات الموثوقة، فقد حصل جدال بين قادة المقاومة في الخارج حسمته قيادة الداخل في غزة التي أكدت أنها تفضّل إكمال القتال على الانتظار وإعطاء إسرائيل فرصة الاستراحة وإعادة التنظيم، خصوصاً بعدما انشكف تصميمُها على مواصلة القتال بعد الهدنة وأن أميركا لن توقف دعمها العسكري لها مهما حصل.

ولن يرضى قادة المقاومة في الداخل بأقلّ من وقف إطلاق نار تام وعودة المهجرين إلى منازلهم ومناطقهم وإدخال المساعدات بكميات تكفي وتنزع شبح الموت جوعاً كما يحصل اليوم. وهذا ما يرفضه المفاوض الإسرائيلي.

وتَعتبر المقاومة أن عمليات الإنزال الجوي، ليست سوى عملية تبييض سمعة وفرصةً استعراضيةً لدولٍ تتعامل مع إسرائيل وتدعمها. إذ لا توازي الكمية الملقاة جواً شحنةً واحدة تمر عبر المعابر الأرضية المتعددة المتاحة.

وهذه الانزالات تصبّ في مصلحة إسرائيل التي تستطيع حكومتها التلطي خلفها وكأنها لا تمنع الغذاء عن المدنيين. إذ يَعتبر متطرفوها بصراحة وعلى مسامع العالم انه «يجب إدخال ما يكفي لإبقاء السكان على قيد الحياة بالكاد بسعرات حرارية ضئيلة جداً، دون أن تسمح لهم كمية الغذاء الضئيلة المقدمة الطاقة للحركة والنشاط».

وتالياً فإن الإنزال الجوي للمساعدات لا يصبّ في مصلحة غزة، وإن كان ظاهرياً كذلك، بل يغطّي جرائم إسرائيل التي تعطي الإذن لهذه الطائرات وتحدّد أعدادها بحسب ما تراه مناسباً.

وبالطبع فإن المقاومة لا تستطيع التعبير عن ذلك كي لا تُتهم بالمساهمة في الضغط على المدنيين. إلا أن ملف الأسرى ومنع الغذاء كلياً عن غزة يمثّل أفضل أدوات ضغط دولية على إسرائيل للتفاوض على مَن تبقى من الأسرى الأحياء ولفتح المعابر على مصرعيها لأن الدول التي تحمي إسرائيل وصلت إلى مستوى العجز عن تقديم هذه الحماية بعد اليوم. فقد فقدت تل ابيب دعم العالم والاعلام الدولي لتعدُّد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني والتي لم تَعُدْ تُحصى وأصبحت على كل لسانٍ، حتى بات بايدن يعدّدها في جميع المحافل.

أما بالنسبة لإسرائيل، فالخلافات الداخلية لا تصل إلى المستوى المطلوب والكافي للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو الذي يتحدّى أميركا والمحكمة الدولية والأمم المتحدة وجزءاً من مجتمعه ليكمل الحرب ويرفض أي تنازل في المفاوضات.

إذ يقول الوزير في حكومة الحرب المصغرة وقائد الجيش السابق غابي ايزنكوت الذي يتمتع بشعبية واحترام، وخصوصاً بعد مقتل ابنه الضابط في غزة، وصدقية عالية لأنه ليست لديه طموحات سياسية إن «لا نَصْرَ لإسرائيل من دون عودة المخطوفين، وعودتهم أوْلى من تدمير حماس». ويوافقه الوزير وزعيم الوسط بيني غانتس الطَموح سياسياً والمفضَّل لدى الإدارة الأميركية والذي يريد انتخابات مبكرة، مثلما يريدها زعيم المعارضة يائير لابيد، من دون أن يَطلب أي منهما وقف الحرب النهائي بل هدنة موقتة تلبية لطلب أهالي المخطوفين والإدارة الأميركية.

ولا يشعر نتنياهو بقوة التيار المضادّ له لإرغامه على الجلوس على طاولة المفاوضات لأن التصعيد الداخلي الذي يواجهه غير مؤلم. وهو يتمتع بدعم التيار المتطرف والأحزاب المتشددة داخل حكومته المتماسكة بما يمكّنه من طرح شروط تعجيزية غير قابلة للتحقيق، من دون أن يوقف المفاوضات وذلك لكسب الوقت لتحقيق إنجاز يمكّنه من حماية حياته السياسية في الحُكْم.

وتعمل إسرائيل وحاخاماتها المتشدّدون المُوالون للحكومة وفق «الحُكم الأساسي في العقيدة المقدسة»، فمخرّبو اليوم - بحسب هؤلاء - هم الأطفال الذي أبقيناهم على قيد الحياة في الحرب السابقة، والنساء اللواتي يُتركن أحياء هنّ اللواتي يَصنعن الإرهابيين.

وهذا لا يعني، بمفهومهم، أنك تقتل ابن الـ 16، 20، 30 سنة، بل الذي ينجب الجيل القادم (النساء الحوامل) ولا يوجد انسان بريء.

هذا هو المفهوم التوراتي. ولذلك فإن المقاومة الفلسطينية تعلم ما ينتظرها وما يخطط له الجيش الإسرائيلي الذي أصبح تحت قيادة مجتمع وقادة أكثر تشدُّداً دينياً.

إنها معركة مصير وعضّ أصابع على قاعدة مَن يقبل بشروط الآخَر أو إكمال الحرب من دون أفق واضح. وهذا ما تتّجه إليه غزة التي صمّم أعداؤها على تدميرها وإركاعها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي