قهوة بوتين... وحساباته

تصغير
تكبير

مع مرور عامين على الحرب الروسية - الأوكرانية، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موقع أفضل مما كان عليه في 2022 مع انتكاسة الهجوم الأول الذي لامَسَ ضواحي كييف، وفي 2023 مع وصول الدعم العسكري الغربي (الأميركي - الألماني - البريطاني خصوصاً) إلى ذروته بشحنات أسلحة على مدار الساعة.

في جلسة تقييم بعد دخول الحرب عامها الثالث، يقف بوتين صباح يوم من نهاية فبراير 2024 على شرفة الكرملين بقلقٍ أقل وطموحات أكبر، ويستعرض الواقع بعد مرور 24 شهراً على حرب أطلق عليها «عملية عسكرية خاصة»، وتكبّد فيها جيشه خسائر كبيرة وتعرّض اقتصاده لضربات أميركية - أوروبية متتالية، مع احتجاز نحو 350 مليار دولار لبلاده في بنوك الدول الغربية، والتي تشكل نحو نصف احتياطات روسيا من الذهب والنقد الأجنبي.

يفكر «القيصر» قليلاً يرتشف بعضاً من القهوة، ثم يرسم المشهدية على 4 مرتكزات كبرى:

1- الواقع الميداني مع نجاح القوات الروسية في فرض إيقاعها من باخموت في مايو 2023 إلى أفدييفكا في فبراير 2024، وما بينهما من استعادة لزمام المبادرة وإفشال الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية. وهو ما يؤشر على فهم أكبر واستيعاب أعمق للأرض وما فوقها، من قبل القيادة العسكرية الروسية، في ظل الدعم العسكري الغربي الهائل للقوات الأوكرانية.

وإنْ كان ذلك لا يعني أن الحسم وشيك أو أن انقلاباً كبيراً في الموازين يرتسم على الأرض، لكنه يؤكد أن روسيا ماضية في الحرب حتى يحين وقت التفاوض، مع محاولة السيطرة على أكبر مساحات من الأراضي، والسعي لحسم معركة حوض الدونباس بشكل كامل.

2- إرهاق الغرب سياسياً وعسكرياً، إذ إنه على الرغم من عدم بروز مؤشرات على تراجع في الموقف المُعلن الداعم لأوكرانيا، أميركياً أو أوروبياً، لكن من الواضح أن الكونغرس الأميركي أنهى مرحلة «الشيكات المفتوحة» لكييف، وأن ثلة من القادة الأوروبيين باتوا يعتبرون أن أميركا «غطّستهم» في المستنقع وأنهم لم يكونوا أصحاب قرار رئيسيين في توسيع الحرب، كما وجدوا أنفسهم عاجزين عن الانخراط في لعبة المفاوضات السياسية، ليصطدموا بواقع أن الحرب انعكست على مجريات الحياة للمواطنين العاديين في دولهم، وأثّرت في اقتصاداتهم، وأعادت ترتيب أولوياتهم.

أمام هذا الواقع، لا يبدو أن الخيارات الأميركية والأوروبية تتركز على مواصلة الدعم المفتوح لكييف، خصوصاً أن ثبات الجبهات منذ نحو عام (على الرغم من بعض التقدم لطرف والتراجع للطرف الآخر في منطقة أو محور أو مدينة) يشي بأن الحل السياسي لم يعد بعيداً، وإنْ كان عبر مفاوضات صعبة ومُعقّدة، وأن لا قدرة للقوات الأوكرانية على إعادة خط الحدود إلى ما كان عليه لا قبل فبراير 2020 (بدء الحرب)، ولا قبل مارس 2014 (عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها).

3- عدم انهيار الاقتصاد الروسي، لأن الغرب كان يروم من عقوباته غير المسبوقة التي تُقدّر بالآلاف وطالت مختلف القطاعات التجارية والبنكية والعسكرية والعلمية، إلى ضرب الاقتصاد الروسي وإصابته بالشلل إلى الحد الذي يجعل الكرملين عاجزاً عن تمويل الحرب، لكن يبدو أن خطط الروس كانت أنجع، مع إظهار الاقتصاد مرونة وقدرة على التكيّف مع العقوبات، بل وتحقيق نمو غير متوقع، في ظل نجاح موسكو في توسيع علاقاتها التجارية مع الصين والهند والعديد من دول آسيا، وإيجاد أسواق بديلة لصادراتها من الغاز والنفط.

4- حرب غزة، التي يرى البعض أنها أفادت الروس لأقصى الحدود، مع إشاحتِها بالأنظار عن البقعة الأوكرانية الملتهبة، وفَرْضها إعادة ترتيب الأولويات على الأجندة الأميركية والأوروبية، خاصة أن العدوان المستمر على قطاع غزة قد يتحوّل إلى حرب إقليمية واسعة النطاق.

وفضلاً عن الزخم الإعلامي الذي أزاح أوكرانيا عن الأخبار الرئيسية في مختلف أنحاء العالم، تطلّب ذلك من الولايات المتحدة، خصوصاً، توجيه مواردها واهتمامها إلى الشرق الأوسط، مع تعرّض قواعدها في سورية والعراق لهجمات من فصائل مرتبطة بإيران، واشتعال المواجهات البحرية في البحر الأحمر.

بعد العرض السريع، ينهي بوتين قهوته، وبينما يدلف من الشرفة إلى مكتبه، يتوقف قليلاً ويذهب بتفكيره إلى مرتكز خامس: ماذا لو عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025؟... حسناً عندها يمكننا عقد صفقة مُجزية، ومن هنا حتى ذلك الحين علينا السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي لأن أساس التسوية سيكون الواقع الميداني القائم حينذاك.

في المحصلة، عندما ألقى بوتين «عظة تاريخية» في مقابلته الأخيرة مع المذيع الأميركي تاكر كارلسون، وعاد فيها إلى العام 862، أراد أن يذكّر الأميركيين بأن تاريخ بلادهم بدأ قبل نحو 300 عام في حين أن الدولة الروسية عمرها أكثر من 1162 عاماً.

عنى بذلك أن الأمم العريقة لا تلقي السلاح مهما كانت النتائج، وذهب أعمق من ذلك عندما تحدث عن «روح روسية» في أوكرانيا، التي أفاض واسترسل في استعراض ماضيها لنحو 33 دقيقة من السرد التاريخي، مبرزاً رؤية الأنظمة التي مازالت تنظر لبعض الكيانات المستقلة من نظرة الضمّ التاريخي.

كما ضرب مثالاً ذا مغزى، عندما روى واقعة حدثت في الميدان، حيث حاصرت مجموعة من قوات بلاده مجموعة من الجنود الأوكرانيين وطلبت منهم الاستسلام، لكن رد الأوكرانيين كان أن «الجندي الروسي لا يستسلم».

أراد بوتين القول إن قسماً كبيراً من الجنود الأوكرانيين الذين يقاتلون قواته هم أصلاً من أصول روسية، وتحدث عن روح مشتركة بين البلدين، ليبعث رسالة واضحة إلى الغرب أنه لن يستسلم أو يتراجع، قبل أن يقول صراحة: «كلّ ما يحدث على جبهة أوكرانيا هو بالنسبة لهم تقدّم لموقعهم التكتيكي، لكنه بالنسبة لنا مصيرنا... إنها مسألة حياة أو موت».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي