No Script

هل من أمر دُبِّر بِليل؟

تصغير
تكبير

تفاءل كثيرون بوجود عقلية مُجدّدة في رئاسة الحكومة تجمع ما بين الخبرة والعلم والتدرّج في المناصب العامة. ولكن من باب صديقك من صدَقك وليس من صدّقك نتوجّه بالتالي للشيخ الدكتور محمد الصباح حرصاً على نجاح التجربة ووصولها إلى خواتيمها الإيجابية.

اعتمدت الحكومة ظاهرة غريبة في تعاطيها مع الشأن العام، وخصوصاً القضايا الحساسة التي تهم المواطن من جهة، والقضايا التي تتعلّق بتطوير النظام السياسي لمزيد من تكريس الحريات وتعميق الديموقراطية من جهة أخرى. هذه الظاهرة تمثّلت بمبدأ الاستبيان الذي يحمل في باطنه مخاطر حقيقية لا تمت بصلة إلى ظاهره.

اعتمدت الحكومة الاستبيان في موضوع الأولويات التي تهمّ الناس من صحة وتعليم وإسكان، وصولاً إلى ملفات الجنسية وغيرها. ثم اعتمدت لاحقاً مبدأ الاستبيان في ما يتعلّق بتحديد موعد الانتخابات المقبلة بين تاريخين أحدهما في رمضان والآخر بعد العيد مباشرة.

الاستبيان من حيث المبدأ أمر غير منصوص عليه في الدستور. الدستور ينصّ صراحة على أن الحكومة تُقرّر وفق ما تراه مناسباً للمصلحة العامة، وليس في بنوده ما يشير إلى الرجوع للشعب للتقرير لأن هناك مؤسسات تُنظّم صدور القرار وكلّها منبثقة من الشعب. وهذا ينسحب أيضاً على القاعدة الشرعية إذ إن المقصود بـ «وشاورهم في الأمر» الرجوع لأهل الحلّ والعقد والعلماء والخبراء وليس العامة.

هنا، تَدْخل الحكومة – ودائماً من حيث المبدأ - في ما لا تحمد عقباه، إذ إن اللجوء إلى الاستبيان لا يمكن ضبطه أو حصره في ما ترغب السلطة به، لأن ذلك يقترب من التوجيه المقصود الذي لا يمكن التحكم به.

ماذا لو تعمّمت تجربة الاستبيان وأراد البعض مثلاً الطلب من الحكومة المسّ بصندوق الأجيال وصرف بعض موجوداته في قضايا داخليّة شعبويّة؟ ماذا لو جرى استبيان حول قضايا انتخابيّة تُرهق الخزينة وتُكرّس مبدأ التواكل والنزعات الاستهلاكيّة؟ ماذا لو قامت حسابات على وسائل التواصل أو مواقع بحثيّة مما لا سيطرة لكم عليها بإعلان استبيانات في نفس مواضيع استبيانات الحكومة وبنفس التوقيت وأعلنت نتائج مغايرة لنتائجكم وأنتم تعلمون أن الناس تميل لتصديق ما هو غير رسمي؟ ماذا لو قرّر الناس زيادات كبيرة في الرواتب وإسقاط القروض؟ تغيير الدوامات وتخفيف الالتزام بقيم العمل والإنتاج؟ زيادة الضرائب أو انعدامها؟ تخفيف الرسوم أو تضخيمها؟ تغيير النظام الانتخابي أو اعتماد سياسات تسير في اتجاهات لا تخدم المصلحة العامة؟

الأمثلة تطول في ما يتعلق بالمبدأ، أما في النتائج فهناك علامة استفهام كبيرة أيضاً إذ إن المؤسسات وجدت لتنظيم القرار بعيداً عن صدق النيّات وصفاء الرؤية والرغبات. فكيف سيصدّق الناس أن الحكومة ستنفّذ ما أتت به تطلّعات الناس عبر الاستبيان؟ وماذا عن الاستبيان الأول المتعلّق بالأولويات فهل سيتم الالتزام حرفياً بما أقرّته غالبية من شارك في استفتاء إلكتروني؟ أم أن الحكومة تالياً سترمي الكرة في ملعب الشعب إذا توافق مع ما تُخطّط له أم ستلغي رأي الشعب إن تعارض معها؟

هذا الأمر يصيب الديموقراطية في مقتل ويخلّ بالقواعد الأساسية للنظام البرلماني الذي ينصّ على فصل السلطات... ولا نريد هنا استحضار تجارب أنظمة أنهت دور المؤسسات بحجّة التوافق مع رغبات الشعب فيما هي تعمل لمصالحها فقط وتستغلّ الشعب في تمرير ما تريد.

نصل إلى اختيار موعد الانتخابات. أيضاً في المبدأ نقول إن التوقيت يجب أن يتلازم حكماً مع نجاح العملية الانتخابية والمسيرة الديموقراطية، وفي الدول المتقدمة لا يكون موعد الانتخابات تفصيلاً بل هو في صميم التخطيط الأمثل لنجاح الاستقرار الدستوري بما يخدم التمثيل الأفضل والمشاركة الأوسع.

معروف للجميع أن حلّ مجلس الأمة دستورياً تعقبه انتخابات في فترة لا تتجاوز الستين يوماً. الحكومة استعجلت رفع مشروع مرسوم الحلّ بتاريخ 15 فبراير 2024 من دون التفكير في ما يلي ذلك من ضبط للمهل. على سبيل المثال، لو تريّثت الحكومة أسبوعاً واحداً فقط وهو الأمر الذي لن يقلب الدنيا أو يُغيّر القرار، لكان في الإمكان إجراء الانتخابات بعد عطلة عيد الفطر لضمان عودة الجميع من الإجازة من دون أي إشكالات تذكر.

تسرّعت الحكومة والآن تريد تحميل الشعب جزءاً من قرارها عبر إشراكه صورياً في تحديد الموعد... وهذا خطأ كبير.

إجراء الانتخابات في عطلة العيد سابقة لم تشهدها الكويت ولا نريد أن تشهدها الكويت إلا إذا كانت الحكومة تريد أن تُسجّل سابقة سلبية غير محمودة. أما إجراء الانتخابات في رمضان فهو أمر حصل سابقاً ويمكن أن يُبنى عليه لاحقاً. فأين الخطأ إن تم تنظيم هذا الاستحقاق الدستوري مثلاً قبل العشر الأواخر من رمضان لضمان وجود الناخبين بكثرة في الكويت وبالتالي تحقيق أوسع مشاركة؟

المنطق يقول يا رئيس الوزراء إن أول انتخابات في عهدك يجب أن تكون الأكثر حضوراً شعبياً والأقوى مشاركة لتأمين أفضل تمثيل وليس أضعف مشاركة، لأن المخرجات لن تكون بحجم المبادئ العامة التي لطالما أعلنت أنك ملتزم بها، من دون أن ننسى أنك في تصريحك الأول في زيارتك الأولى للبرلمان أكّدت أنّك لم تأت بحكومة حلّ بل بحكومة تعاون... ثم حصل الحلّ.

نُكرّر أن الكلام من باب صديقك من صدَقك لا من صدّقك، ومن باب الدين النصيحة، اللهم إلا إذا كان هناك من أمر يُدبّر بليل وهو ما نُنزّه رئيس الوزراء عنه.

القرارات يا سمو الرئيس تخضع للمصلحة العامة، أما اللعب بورقة الاستبيانات فيتعارض مع العمل المؤسسي، والناس في حلّ من وزر الخطأ.

اعقلها وتوكّل فلن يخسر من انحاز إلى الصواب مهما كثرت الإشكالات والتعقيدات.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي