بَاتْرِيَا أُوْ مُوَيْرْتِيْ يا غزّة

تصغير
تكبير

«الوطن أو الموت» Patria O Muerte

إرنستو تشي غيفارا

من دون أن تعرف لغته الإسبانية لكنك تجد في موسيقى كلماته صدىً في نفسك الحرة.

في خطابه بالأمم المتحدة أطلق تشي غيفارا العبارة الملهمة «بَاتْرِيَا أُوْ مُوَيْرْتِيْ»؛ أي «الوطن أو الموت»؛ فأصبحت أنشودة للشعوب والأمم، وعَبَرَتْ الحدود لتحل في ضمائر الشرفاء كالأُخدود العظيم.

لعلّ الكثير من الرؤساء والزعماء قد أدلوا بخطابات تحمل جملاً وعبارات أكثر فصاحة لغوياً مما قاله غيفارا لكنها ما لبثت إلا أن تغدو هواءً منبثاً لا يتذكرها حتى أصحابها.

على الرغم من أن هذه العبارة تعود لفيديو كاسترو، ولكن لماذا عندما قالها غيفارا أصبحت هكذا تتردد حتى بعد مرور أكثر من 60 عاماً؟ لسببٍ واحد، يتجسد في أنّ عباراته كانت صادقة نابعة من نياط قلبه ومتجذّرة في أعماق قناعاته بالمُثل والقيم التي يحملها، من دون تصنّع أو تمثيل سياسي ينشد الشهرة مثلما يفتعل ذلك الكثير من السياسيين.

عندما انتصر غيفارا في ثورته ضد الطغيان في كوبا مع صديقه كاسترو أصبح وزيراً ولكن ذلك لم يُهدئ ضميره الثائر ولم يُشْبِعْ ذلك غليله المثابر، حيث يرى أن هنالك شعوباً مغلوباً على أمرها ترزح تحت نير الظلم والاضطهاد، فترك المنصب ليرنو خلف مناداة عقله المتحرر من عبودية الذات واللذات.

لقد كان يكابد العناء حينما كان مسؤولاً وهو يرى كيف يعاني الكثير من شعوب العالم من الاضطهاد، فترك المنصب قائلاً:

«إن الثورة تتجمد، وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي».

ترك المنصب وتنازل عن ألقابه التي منحت له وترك كوبا، وبعد ذلك فتح صفحة صراع جديدة مع وكالة الاستخبارات الأميركية والحكام الفاسدين الذين تدعمهم الرأسمالية الإمبريالية، فأخذت شبكاتها العنكبوتية تتعقبه كي لا يصنع كوبا ثانية في أميركا اللاتينية، وحمل راية الكفاح في بوليفيا ضد الديكتاتور العميل رينيه باريينتوس الذي أصدر أمراً بقتله بعد اعتقاله.

وهو مصاب ومعتل ومعتقل في مدرسة طينية متواضعة جداً، طلب محادثة إحدى المدرسات، ولما أتت إليه إحداهن؛ وهي: جوليا كورتيز، قال لها: يجب أن تعتنوا بالمدرسة أكثر لكي تكون أكثر ملاءمة لأبناء الفلاحين الفقراء في حين أنّ المسؤولين الكبار مرفهون.

وعندما سألته: لماذا أنت هنا رغم ذكائك وشهادتك في الطب ومكانتك العالية؟ أجاب: من «أجل قيمي المُثلى».

هذا ما كان يفكر به غيفارا في مكان اعتقاله... كيف يصنع مدرسة مناسبة للتعليم والتربية بينما هو مكبل وجريح وعلى شفا الإعدام، (بينما البعض يستغل التعليم لتعظيم ثرائه ونفوذه ومصالحه!)

أثناء الاعتقال، الذي لم يستمر أكثر من ثلاثة أيام، لم ينثنِ غيفارا أمام سجّانيه بل كان أقوى حالاً وأثبت شكيمة على الرغم من إصابته في قدمه وحالته الجسمانية الواهنة. وحينما حاول أحد الضباط أن ينتزع غليونه قاومه وهو مصفد وركله، بل إنه بصق بوجه الأدميرال البوليفي أوغاتاشى الذي حاول إهانته قبيل إعدامه.

عندما أتى إليه قاتله ماريو تيران متردداً في قتله، قال له: «كن هادئاً، وصوّب جيداً! أنت في النهاية ستقتل رجلاً». وفي رواية أخرى قال له: «أنا أعلم أنك جئت لقتلي؛ أطلق النار يا جبان إنك لن تقتل سوى رجل».

ثم يقول قاتله: «لقد عدت خطوة إلى الوراء نحو الباب وأغمضت عيني وأطلقت الرصاصات الأولى. سقط تشي بعد إصابته في ساقيه على الأرض، وكان يتلوى ويفقد الكثير من الدم، استجمعت طاقتي وصوبت نحوه رصاصات متتالية أصابت ذراعه وكتفه وقلبه؛ لقد مات أخيراً».

وبعد قتله قُطعت يده كي يتم إثبات قتله، وترُكت جثته في مكان مجهول لعقودٍ خوفاً منه!

هكذا قضى الثائر غيفارا نحبه حراً خلّده التاريخ شريفاً تنتقل كلماته عبر الحدود وعملاقاً يثب إلى مدن الفضاء مخترقاً حاجز الأجيال. ومن تلك العبارات التي خلّدها التاريخ له أيضاً ما قاله في مناسبات عديدة، مثل:

- لا تبكِ عليّ إن مت، افعل ما كنت سأفعله أنا لو كنت حياً، عندها سأعيش في قلبك.

- أنا لا أملك وطناً لأحارب من أجله، فوطني هو الحق.

- علّموا أولادكم أن الوطن هو الشرف، هو البيت وهو الحياة.

- مثل الذي باع بلاده وخان وطنه، مثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه.

- لا يقاس الوفاء بما تراه أمام عينك، بل بما يحدث وراء ظهرك.

- إن الحياة كلمة وموقف، الجُبناء لا يكتبون التاريخ، التاريخ يكتبه من عشق الوطن وقاد ثورة الحق وأحب الفقراء.

بيت القصيد: لقد زار غيفارا عام 1959 مدينة غزة عندما كانت جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة تحت الزعيم جمال عبدالناصر، رحمه الله، وعلى الرغم من عدم اهتمام الإعلام العربي والغربي بتلك الزيارة حينها، ولكنها كانت تمهد لعولمة النضال ضد الاحتلال.

لم يمكث غيفارا في غزة إلا ساعات لكنه غرس بذرة «غيفارا غزة» الذي تجسد في شخصية البطل الشهيد محمد الأسود. هذا الشهيد الذي حمل لقب «غيفارا غزة» قد أثخن الجراح في الاحتلال الصهيوني الذي جن جنونه لمعرفة هويته!

وبعد عمليات عديدة اعترف المقبور موشي دايان بأن قواته تحكم غزة بالنهار وحركات الفدائيين التي يقودها «غيفارا غزة: محمد الأسود» تحكمها بالليل.

استطاعت قوات الاحتلال الصهيونية أن تتمكن من محمد الأسود بعد صراع طويل في عام 1973، ولكنها لم تستطع أن تكتم أنفاس شعب مناضل يشتم أوكسجين الحرية مثلما تنفّسه عمر المختار وغيفارا ومانديلا وغاندي وكثير غيرهم من أحرار العالم الذين عَرفوا كيف يكونون مظلومين فينتصرون.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي