اعتزل ما يؤذيك، شعار كثر مردوده ومروجوه والمتكسبون عليه، ولكن هل كل ما يؤذيك هو بالفعل يؤذيك؟
يعيش الإنسان في بيئات اجتماعية مختلفة، في العمل واللقاءات الأُسرية والصداقات على مختلف المجالات الدينية والرياضية والثقافية وغيرها، ولمخالطة الناس منذ بداية الأمر نوايا للتعرف عليهم والاحتكاك بهم، فمثلاً زوجة صالحة يرزقك الله منها ذرية مباركة يُصلح الله على يديها شؤون العباد، أو صديق يعينك على فعل الخير، أو أخ تزوره في الله، أو صلة رحم، أو شيخ تتعلّم منه أمور دينك، أو مُعلّم تتعلّم منه أمور دنياك، أو تلميذ تعلّمه مما علّمك الله...
فإن تحققت هذه النوايا في قلب الإنسان هان عليه ما يجد في سبيل غاية أعظم من العلاقة وأضرارها، أما إن كانت العلاقة مبنية منذ الأساس على دنيا زائلة أو قضاء وقت فراغ بلا هدف سوى التسلية واللهو، فهي منذ الأساس وبالٌ على صاحبها، وأن نيته في العلاقة منذ بداية الأمر هي ما يؤذيه وهي الخطر عليه وليس الطرف الآخر!
رغم ما تعرّض له النبي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في مكة من الأذى اللفظي والجسدي، لم يعتزل ما يؤذيه، لأنه، صلى الله عليه وسلم، هو مَن علّمنا أن نخالط الناس ونصبر على أذاهم، كما كان همه نشر الدعوة، وكان الدال على الله عز و جل، في الحال والمقال، وعندما فرغت قريش ممن يرجى إسلامه ولم يتبق إلا المعاند والمعادي حان وقت الهجرة والانتقال والاعتزال، فاعتزل ما يؤذيه.
اليوم عبارة: «اعتزل ما يؤذيك» أصبحت كلمة حق يراد بها باطل، يستخدمها كل من يفتي بغير علمٍ فضَلّ وأضلّ ليتكسّب على ظهر من لا يجيد أن يخالط الناس بنية صالحة ولا غاية ولا مقصد للتأثر والتأثير فيهم، أو من لا يعرف كيف يقضي وقت فراغه فيعتزل الناس، ويبحث عن من يجيد الضحك والهراء، وما إن يمل حتى يبحث عن غيره وغيره ليزيد بذلك تفاهة وسخفاً، وكم فرّقت هذه الكلمة من زوجين صالحين ولكنهما لم يعرفا كيف يمتزجان ويتعاشران بالمودة والرحمة بنية صالحة تجمع بينهما، وكم فرّقت من صديقين لم يدرك أي منهما أنه لن يجد صديقاً بلا عيب، وكم قطعت من رحمٍ يظن قاطعه أنه يقيم شرع الله في القطيعة.
«اعتزل ما يؤذيك وعليك بالخليل الصالح وقلّما تجده وشاور في أمرك الذين يخافون الله».
هذه هي المقولة الصحيحة التي وردت عن سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
أظن أننا بحاجة إلى تحرّي المقاصد والنوايا الصالحة في أنفسنا لنجد دستوراً نقيم عليه أمر علاقاتنا الاجتماعية ولنتحرى صلاح وصدق من نشاور في أمورنا وأحوالنا، فلعل كثيراً مما نظنه علماً نطبقه يكون هراءً أفضى به سفيه قومه ليجد عندنا لكل ساقط لاقط.