فور عملية طوفان الأقصى، جاء موقف الاتحاد الأوروبي شبه موحد متسق كالعادة مع موقف واشنطن، بإدانة حركة حماس، مدافعاً عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجمات حماس الإرهابية، مهدداً بقطع المساعدات الإنسانية والإنمائية عن فلسطين والوكالات الداعمة لفلسطين.
ومع توسع العمليات العنيفة لإسرائيل على القطاع، وتفاقم الأزمة الإنسانية بصورة غير مسبوقة، نشبت خلافات واسعة بين دول الاتحاد داخل المفوضية الأوروبية وخارجها، حول خطورة قطع المساعدات الإنسانية عن فلسطين. وعلى إثر ذلك أيضاً، خفضت حدة النبرة الداعمة لإسرائيل، وتبدلت بنبرة داعية للهدنة ووقف العمليات العسكرية، والعودة إلى طريق المفاوضات.
والتطور الملفت الذي برز مع توسع العمليات الوحشية لإسرائيل على القطاع، كان تغريد رئيس وزراء إسبانيا الاشتراكي، بيدرو سانشيز، خارج السرب الأوروبي، معبراً عن موقف جريء يدين فيه العمليات الإسرائيلية على القطاع باعتبارها غير إنسانية، وقد ذهب أبعد من ذلك، بإعلانه الاعتراف بدولة فلسطين من جانب واحد إذا لم يقم الاتحاد الأوروبي بذلك، مما أثار غضب إسرائيل بشدة، وفاقم من انقسام الأوروبيين حول القضية الفلسطينية.
وقد حذا حذو سانشيز، بعض الساسة الأوروبيين داخل السلطة وخارجها لكن بدرجات أخف. فضلاً عن تضامن معظم اليسار الأوروبي مع القضية الفلسطينية وغزة.
الانقسام الأوروبي والذي يصل في بعض الأحيان إلى مستويات حادة، ليس بالجديد، فقد برز بشدة إبان الأزمة المالية العالمية وحزم الدعم لليونان في 2007، ثم في أزمة اللاجئين في 2015، ثم جاءت أزمة كوفيد- 19 التي كادت أن تفضي بالاتحاد إلى الانهيار. أخيراً، الحرب الأوكرانية التي رممت نسبياً الشرخ الأوروبي الناجم عن كورونا.
مفاد ذلك، أن دول الـ26 من الصعب أن تتفق على قضية واحدة، فكل دولة لها مصالحها واعتباراتها الخاصة. لكن عموماً، تتوحد المصالح والمخاوف الأوروبية بشأن القضية الفلسطينية وغزة حالياً، حول الخوف من تداعيات تدهور الوضع على قضية الهجرة من الجنوب إلى الشمال، وتنامي التطرف داخل الاتحاد الذي تؤججه المظالم التي يعاني منها الفلسطينيون.
ولعل ذلك ما يفسر تراجع الاتحاد وبعض دوله في مواقفه المتشددة أو المنحازة لإسرائيل التي عبر عنها في بداية حرب غزة، مع بروز عنصر جديد قد تفاجأ به الأوروبيين هو زيادة المظاهرات والدعم الشعبي الأوروبي الداعم لأهالي غزة، والمندد للمجازر الإسرائيلية في القطاع.
وربما ذلك ما يفسر أيضاً، تعالي الأصوات الأوروبية الرسمية الداعية لبدء حل جذري للقضية الفلسطينية على أساس قرارات الشرعية الدولية وحل الدولتين. إذ قد تيقن الأوروبيون أن استمرار تدهور القضية الفلسطينية سيكون المبعث الرئيسي لتدهور الاستقرار في المنطقة، وستكون الارتدادات على أوروبا شديدة الوطأة.
وهذا لا يعني توحد الصف الأوروبي تماماً بشأن فلسطين. إذ لا تزال الأحزاب والحكومات اليمينية هو الأكثرية الغالبة في أوروبا حالياً، تدعم حل القضية الفلسطينية وفقاً للرؤية الإسرائيلية. ففرنسا وألمانيا وإيطاليا على سبيل المثال، قد ألمحت بالموافقة على الاعتراف بدولة فلسطينية حتى ولو منزوعة السلاح، بشرط موافقة إسرائيل. دولة مثل المجر ترفض الاعتراف بدولة فلسطينية من الأساس.
وهذا يدفعنا إلى الانقسام الأوروبي الأهم الناجم عن غزة، والذي تقوده إسبانيا المحكومة من اليسار، والتي كما أشرنا قد أدانت إسرائيل علانية في سابقة فريدة، وأعلنت تأييدها لدولة فلسطينية مستقلة. يدعم معظم اليسار الأوروبي تاريخياً أو ما يطلق عليه اليسار المتطرف، حقوق الشعب الفلسطيني وقيام دولة فلسطينية، وذلك انطلاقاً من اعتبارات تاريخية وأيديولوجية وإنسانية وسياسية.
إذاً، ملخص البيان، الانقسام الأوروبي حول غزة أمر طبيعي، وإذا هناك تلاق في بعض المواقف فمنبعه الهواجس المشتركة لجميع دول الاتحاد لاسيما هاجس الهجرة والتطرف. لكن لعل الجديد في الانقسام الأوروبي في هذه المرة، هو بروز عنصر اليسار الذي تقوده إسبانيا، والذي بدوره سيفاقم الانقسام الأوروبي خلال الفترة المقبلة. وتنامي التعاطف الشعبي مع الشعب الفلسطيني، والذي بدوره أيضاً سيزيد الضغط على الحكومات اليمينية وحكومات الوسط الداعمة لإسرائيل بشكل مطلق.