الاختصاصي في حركات السكان علي فاعور روى لـ «الراي» فصولاً من صراع التهجير والصمود

النزوح من جنوب لبنان موجةٌ عابِرة تتلاشى مع... الهجرة العائدة

تصغير
تكبير
أطفأتْ هدنةُ غزة الجبهةَ المشتعلةَ على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، فبدا جنوب لبنان وكأنه في «استراحةِ مُحارِبٍ» بعد 47 يوماً من حربٍ فوق رقعةٍ من الجغرافيا تمتدّ على نحو مسافة مئة كيلومتر وتحدّها قواعد اشتباك «مطاطية» تتمدّد حيناً وتنحسر أحياناً.
وأتاحتْ هدنةُ الأيام الأربعة المرشَّحة للتمدد أربعة أيام أخرى، للنازحين من الجنوب العودةَ إلى بلداتهم في زياراتٍ «خاطفة» لتَفَقُّد بيوتاتهم وأرزاقهم قبل المغادرة إلى الأمكنة الأكثر أمناً في المناطق اللبنانية التي تنأى عنها الحربُ حتى الآن وإلى أَجَلٍ غير مسمى.
«لعنةِ الجغرافيا»

حركة النزوح من جنوب لبنان، المُصاب بـ «لعنةِ الجغرافيا» «ظاهرةٌ» قديمة تعود إلى الأرشيف المدجَّج بالحروب والغزوات التي شنّتْها إسرائيل على مدى عقود وبلغت يوماً العاصمة بيروت، حروبٌ سالت فيها دماء كثيرة، وغزواتٌ تخللها بَطْشٌ وتنكيلٌ واعتقالٌ ومَجازر.
ولم تنجح الآلة العسكرية الإسرائيلية في تحويل جنوب لبنان أرضاً بلا شعب رغم محاولاتها مراراً وتكراراً جعْله أشبه بأرضٍ محروقة. فالجنوبيون الذين عانوا التهجيرَ القسري لفتراتٍ متتالية أثبتوا ارتباطَهم بالأرض وتَعَلُّقهم بها وإصرارَهم على البقاء حرّاساً لها مهما بلغت الأخطار.
اليوم يسطّر جنوب لبنان فصلاً جديداً مع حربٍ، مهما كانت عناوينها العسكرية أو العقائدية أو السياسية، فإن الثابتَ الوحيدَ فيها تَمَسُّكُ أهل الجنوب بأرضهم، وهو الأمر الذي يُشكّل مسيرة طويلة من الصمود يكشف أبعادها لـ «الراي» الاختصاصي في دراسة حركات السكان والجغرافيا السكانية الدكتور علي فاعور.
فمع اشتداد العمليات العسكرية في جنوب لبنان واستهداف القصف الإسرائيلي للبلدات الحدودية وتَوَسُّعه أحياناً الى عمق بعض المناطق، ومع استهداف البيوت والسيارات المدنية وارتفاع عدد الضحايا، ازداد عدد النازحين من البلدات الجنوبية لاسيما في منطقتي صور والنبطية. والعدد مرشحٌ للتصاعد مع العودة المحتملة للحرب وارتفاع مستوى التوحّش الإسرائيلي واعتداءاته الشرسة. وهو نزوحٌ جديد يأتي ليضاف إلى قائمة موجات متكرّرة غيّرت وجه الجنوب وصقلت مفهوم الحياة في بلداته.
وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات صور أعلنتْ أن العدد الفعلي للنازحين وصل في 20 نوفمبر الى 16276 نازحاً مسجَّلين في لوائح رسمية سواء لدى وحدة إدارة الكوارث أو لدى المنظمات التي تعنى بتقديم مساعدات للنازحين وهم يتوزّعون على أربعة مراكز إيواء في قضاء صور.
لكن هذا العدد المعلَن عنه لا يُشكّل سوى جزء من أعداد الذين نزحوا عن قراهم وبلداتهم لأسباب أمنية وعسكرية. وتقول بعض المصادر إن العدد قد وصل الى أكثر من 40 ألفاً.
لكن مهما يكن من أمر لا يُمكن إحصاء النازحين بشكل دقيق وفق ما يقول لـ «الراي» الدكتور علي فاعور، والسبب يعود الى كون غالبية أهل البلدات الحدودية لديهم بيوت في بيروت وضواحيها نتيجة التهجير السابق الذي حصل منذ العام 1978 حين احتلت إسرائيل مناطق واسعة من الجنوب اللبناني وأنشأت ما أسمتْه «الشريط الحدودي». فمَن غادروا قراهم اليوم إثر الاعتداءات الجارية كانوا قد عادوا إليها بعد تحرير الجنوب في العام 2000. لكن هؤلاء كانوا استقروا لِما يزيد على20 عاماً في مناطق لبنانية مختلفة مثل ضاحية بيروت الجنوبية أو البقاع وصولاً إلى الشمال واقتنوا مساكن فيها. ويُقَدَّر ان أكثر من 40 في المئة من سكان جنوب الليطاني تهجّروا أثناء هذه الفترة، ولذا فإن القسمَ الأكبر ممّن نزحوا عن قراهم اليوم نتيجة الاشتباكات الحاصلة لجؤوا إلى بيوتهم في هذه المناطق بحيث بات يصعب إحصاء النازحين.
ولكن يُمكن تقدير أعداد النازحين من جنوب لبنان منذ عملية «طوفان الأقصى» بما بين 30 و50 ألفاً، كما يؤكد فاعور «لأن القرى الجنوبية لم تعد تضم أعداداً كبيرة من السكان وغالبية أهلها يقيمون في بيروت أو هم مهاجِرون الى الخارج ويعودون الى بلداتهم في العطل. وحتى الآن مازال النزوح محدوداً ولم يشهد لبنان بعد موجات شديدة كما حَدَثَ إبان حرب يوليو 2006، ولم تبرز تداعيات هذا النزوح بعد ما خلا الصعوبات المالية والعملانية التي يواجهها المعنيون في تأمين احتياجات مَنْ نزحوا الى مراكز الإيواء. والمفارقة في الأمر أنه مقابل العدد المحدود من النازحين اللبنانيين تشير بعض المصادر إلى هجرة كثيفة يشهدها شمال إسرائيل حيث تجاوز عدد المهاجرين إلى قبرص عتبة 20000 نازح».
في الإحصاء الذي أجرتْه إدارة الإحصاء المركزي في لبنان في العام 2018 - 2019، تَبَيَّنَ أن عدد سكان الجنوب المقيمين شمال نهر الليطاني يقارب 383000 فيما العدد في منطقة جنوب الليطاني يناهز 373000.
وهؤلاء يشكّلون 10 في المئة من سكان لبنان في محافظة النبطية و10 في المئة في محافظة الجنوب.
وثمة أعداد أكبر بكثير بين منتشرين ومهاجرين من أهل الجنوب. فهل قَدَرَ هؤلاء أن يُهجَّروا قسراً من أرضهم ويَتشتتوا في مناطق لبنان وبلدان العالم؟
الإجابة تحمل أكثر من بُعد وفق ما يقول فاعور، صاحب كتاب «جنوب لبنان الطبيعة والإنسان»، مؤكداً أنه «نتيجة هذا التهجير المتكرر برزتْ حقيقةٌ ثابتةٌ وهي الارتباط الوثيق بين الإنسان والأرض في الجنوب الذي بقي صلباً رغم التهجير المستمر والهجرة. فقد استمد الجنوب شخصيتَه من أرضه ومياهه ومناخه وتربته ولعل هذه الهِبة الطبيعية سر بقائه وحيويته وصموده... وهذا التعلق بالأرض هو ما أدى الى نشوء المقاومة لحماية الأرض والحدود. أما البُعد الثاني للتهجير فهو أن أهل الجنوب المنتشرين في أصقاع الأرض لاسيما أفريقيا باتوا يشكّلون الرافعة الاقتصادية التي أعادت بناء الجنوب وإنماءه بعد التحرير وساهمت في عودة أهله إليه».
الأطماع الإسرائيلية
التهجير الذي أرادتْه إسرائيل ومازالت تعمل عليه اليوم ليس نتيجة للاعتداءات بل هو سبب ومبرِّر لها. فأطماع إسرائيل في مياه لبنان وأرضه ليست خفية على أحد وهي الهدف الحقيقي لتهجير أهله بغية الاستفادة من المياه أولاً وحماية المستوطنات الشمالية ثانياً. وحين أنشأت إسرائيل ما يعرف بـ «الشريط الحدودي» لحماية مستوطناتها لم تكتفِ بذلك بل بدأت تتوسع شمالاً وأنشأت خلفه منطقة ثانية خاضعة لاعتداءاتها المتكررة لحماية المنطقة الأولى. وكان ممنوعاً على مدى العقود والسنوات على لبنان أن يقيم مشاريع إنمائية على نهر الليطاني، وكان النهر كما المنطقة بأكملها تخضع لمراقبة دقيقة أثناء الاحتلال كونها تُشكّل الامتداد الحيوي للدولة العدوة. وحتى نهري الوزاني والحاصباني كانت إسرائيل تمنع إقامة السدود عليهما، وفي العام 1972 حين أنشِئ سد على نهر الوزاني لري الأراضي الزراعية عملت على تدميره بالطيران، وبسبب هذه الممارسات بات الجنوب عطشاً، ممنوعاً عليه استغلال ثروته المائية لطمع العدو بها وبالأراضي الخصبة التي يتمتع بها مثل سهل مرجعيون الذي يزيد طوله عن 10 كيلومترات.
ومن ضمن مخططاتها لتهجير أهل الجنوب كان هدف إسرائيل الاستيلاء لا على الأرض فحسب بل على المياه الجوفية التي تعوم عليها مناطق جنوبية لاسيما في حرمون وتُشكّل ثروة للحاضر والمستقبل وكذلك التربة الرملية السوداء الخصبة التي تتميز بها السهول. ويُقال إنه حين انسحبت إسرائيل من الجنوب جرفت معها جزءاً من التربة الخصبة وحملتها إلى فلسطين المحتلة.
«سياسةَ الأرض المحروقة»
«وخلال احتلالها للشريط الحدودي بدءاً من رأس الناقورة وصولاً الى الحاصباني ومزارع شبعا»، يشرح فاعور «مارست إسرائيل في شكل مستمر سياسةَ الأرض المحروقة وسياسة المجازر لزرع الرعب في نفوس أهل الجنوب وحضّهم بالترهيب والقوة على ترك أرضهم بغية إفراغ الجنوب من أهله. فكانت مجزرة الخيام في 1978 التي ذهب ضحيتها أكثر من 100 شخص من الأهالي غالبيتهم من كبار السن، وكذلك مجزرة قانا في العام 1996 خلال ما سمي وقتها بعملية عناقيد الغضب التي نفذها الاحتلال في الجنوب ودمّر فيها عشرات القرى وهجّر ما تبقى من أهلها. وأدت مجزرة قانا إلى استشهاد 106 أشخاص من المدنيين الذين لجؤوا إلى مركز قيادة الكتيبة الفيدجية التابعة لقوة اليونيفيل. تهجير، مجازر، قتْل، أرض محروقة واستهداف مستمر، ذلك كان قَدَرَ الجنوبيين منذ العام 1922 مع ترسيم الحدود اللبنانية - الفلسطينية حيث قامت طلائع الدولة الإسرائيلية حينذاك باقتطاع عدة مساحات من الأراضي الجنوبية وضم العديد من القرى وتهجير سكانها. وبعد قيام دولة إسرائيل المشؤومة ونكبة 1948 تم توقيع اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949 لكن إسرائيل التي لم تحترم يوماً القوانين والاتفاقات وأقدمت على احتلال مساحات واسعة من الأراضي اللبنانية وضمها بالقوة وتهجير أهلها وتغيير معالمها».
وتوالتْ منذ ذلك الحين الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان التي ساهمت في إفراغ الجنوب من أهله وجعل قراه مأوى للمسنين ومناطق تفتقر الى التنمية الاقتصادية والعمرانية. وفي عام 1967 اجتاحت إسرائيل منطقة العرقوب واحتلت نحو 13 قرية ومزرعة أبرزها كفرشوبا وهجّرت سكانها وحالت دون تنفيذ مشاريع ري في هذه المنطقة. وشهدت منطقة العرقوب اجتياحات مستمرة وصولاً الى العام 1972 حين نفذت إسرائيل عملية كبيرة على الجنوب قصفت خلالها قرى ومعابر وجسوراً وسدوداً ما أدى الى مقتل نحو 118 مواطناً. الى ان كان احتلال الشريط الحدودي عام 1978 مع رافق ذلك من تبدل للأوضاع السكانية في الجنوب. ثم كان اجتياح العام 1982 الذي وصل فيه العدو إلى بيروت وتلتْه أحداث داخلية دامية، ثم العام 1996 في عملية عناقيد الغضب التي دمّرت قرى عدة وهجرت المزيد من ابناء الجنوب.
تبدل الأحوال
لكن هذا المسار الذي اعتمدته إسرائيل طوال عقود بغية إفراغ الجنوب من أهله والسيطرة على مصادر المياه وتأمين جبهتها الشمالية، ما لبث ان انقلب وتبدّلت الأحوال مع قيام المقاومة في الجنوب.
ويقول فاعور إن «معاناة أهل الجنوب لم تُثْمِرْ استسلاماً بل تحدياً، وهكذا بدأت حركةٌ تصاعديةٌ لمقاومةِ المحتلّ أدت الى تحرير الجنوب في العام 2000، وكانت تلك نقطة تحول بالنسبة إلى أهل المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني. حيث تم تحرير قرى الشريط الحدودي من الاحتلال المباشر وتخليص المناطق الممتدة خلْفها من الاعتداءات الدائمة، ما أسفر عن عودة الأهالي إلى قراهم وبلداتهم، وعاد الجنوب ليشهد عبر الهجرة العائدة حركةً عمرانيةً واسعةً أعادت إعمار القرى وأعادت الناس إليها وإن بشكل جزئي، حيث بقي الكثير من الجنوبيين يتنقلون بين مكان سكنهم واستقرارهم في بيروت وبين الجنوب الذي بات يشهد حركةً كبيرة في الصيف وأثناء العطل. وبعدما كان يتم الحديث عن هجرة مُغادِرة صار اليوم يتم الكلام عن الهجرة العائدة التي بدعم من الاغتراب عادت لتبني وتحصّن المناطق الجنوبية من الأطماع الإسرائيلية وصار صمود الأهالي في أرضهم أمراً راسخاً ولو اضطروا إلى ترْكها مؤقتاً لأسباب أمنية وللحفاظ على سلامتهم».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي