على وقع المخاوف من تَجَدُّد الحرب الحدودية بعد انتهاء هدنة غزة
لبنان يَتخبّط مالياً ويَخسر سياحياً ويَستقرّ نقدياً
لم تطفئ هدنةُ الأيام الأربعة في غزة والتي امتدّ وهجُها إلى جنوب لبنان المخاوفَ من أن تستعيدَ «جبهةُ المشاغلةِ» لإسرائيل ومعها سخونتَها وسط استمرار الضغوط لمنْع انزلاقِ «بلاد الأرز» إلى حربٍ لا تريدها وليست جاهزة لها، وخصوصاً في ضوء الارتجاجات المتواصلة للانهيار المالي الذي تتدحرج فيه منذ أربعة أعوام.
وتَكَفَّلَ «قصرُ يد» الحكومة في المجالات الحياتية والاقتصادية كافة بتعظيم منسوب «الهلع» المضمَر جراء المَشاهد اليومية للتصعيد والاعتداءات الاسرائيلية التي تواصلت على مدى 47 يوماً (ابتداءً من 8 أكتوبر) ويُخشى أن تتجدّد ما أن تنهي الهدنة الموقتة، حيث يدرك الجميع أن الاحتياطات المتوافرة، المالية
منها والعينية من معيشية وصحية وخلافه، لا تغطي الحاجات لأسابيع معدودة في بلدٍ يواظب، وللعام الخامس على التوالي، على مراكمة الخسائر والانهيارات على قاعدة فشلٍ متعمَّد في إدارة الدولة ومرافقها وقطاعات العمل والانتاج، وفق توصيفات متكررة من مؤسسات دولية مرموقة.
وقد يشكل الاستقرار النقدي «الهش» بركائزه القائمة، علامةً فارقة، وفق مسؤول مالي معني، في ظل استعادة مشهدية «عدم اليقين» التي كبحتْ أنشطةً واعدة في قطاعات حيوية، وفي مقدمها النشاط السياحي الذي فَقَدَ سريعاً أكثر من 90 في المئة من حجم عملياته المتوهجة في الموسم الصيفي المنصرم للتو، بينما تختلّ استطراداً الجهود الرامية لإعادة الانتظام في إدارة المالية العامة عبر مسار الإقرار المبكر لمشروع قانون موازنة 2024 في موعدها الدستوري وقبل انقضاء الشهر الأول من السنة المالية المقبلة.
وبالفعل، فقد حفلت بيانات ميزانية البنك المركزي المحدّثة في منتصف الشهر الحالي، بزيادة وازنة بلغت 430 مليون دولار في أرقام الاحتياطات النقدية بالدولار، ليصل الاجمالي إلى عتبة 9 مليارات دولار، اي نحو 7.6 مليارات دولار بعد احتساب الالتزامات المقابلة. وهو ما أنتج تفاعلاتٍ ايجابيةَ في عمليات العرض والطلب وتصرّفات المتعاملين، ولا سيما لجهة العزل المضاف لأسواق المبادلات النقدية عن تداعياتِ يوميات القلق الكبير من انزلاقاتٍ محتملة نحو الحرب الأوسع نطاقاً ونتائجها الكارثية المرتقبة.
وبمعزل عن تحديد موارد الزيادة المحقّقة عملياً بعمليات شراء مباشرة وبإعادة تقييم أصولٍ محرَّرة باليورو الذي يسجّل تحسناً مشهوداً في الفترة الأخيرة، يُتوقع تكريس هذا المسار في الفترة المقبلة ورفد التحول الإيجابي - إلى التحسن بدل النزف - بمبالغ اضافية في ميزانية «المركزي» عبر الآليات عينها، ما يكرس التغيير الملحوظ في إدارة السلطة النقدية وذلك بمعزل عن شهية السلطات التنفيذية والتشريعية التي دأبت على تغطية مصروفاتها بالاستدانة والسحب من احتياطات «مجفّفة» وتعود حصراً للمودعين في البنوك، أفراداً وشركات من مقيمين وغير مقيمين، وبما يشمل غير لبنانيين وجلّهم من الأشقاء العرب.
وفي البُعد السياحي، برز في المستجدات إطلاق رئيس اتحاد النقابات السياحية ورئيس المجلس الوطني للسياحة بيار الأشقر نداء استغاثة لإنقاذ القطاع من شرٍّ مستطير جراء النتائج الكارثية التي ستُلْحِقها موازنة 2024 بالسياحة والإقتصاد الوطني معلناً «يمكننا القول ان نتنياهو يدمّر غزة والدولة تدمّر السياحة بالموازنة».
وقال: «أتت حرب غزة والأحداث الدائرة في جنوب لبنان وأتى معها إلغاء جميع الحجوز وجميع الجهود التي عمل لها القطاع الخاص لإعادة لبنان على الخريطة السياحية العالمية، كما أن إطالة أمد الحرب سيتسبّب بكوارث في القطاع السياحي وفي كل القطاعات الإقتصادية المختلفة».
وفي الأساس، فإن القطاع السياحي دمّره وباء «كورونا» وإنفجار المرفأ، وتَمَكَّنَ من إستعادة عافيته بالقدرات والإمكانات الذاتية ومن دون أي مساعدة من الدولة ومن دون مصارف
وقروض، لا بل توسّع وانتشر حيث استطاع من خلال أصحاب المؤسسات السياحية وفي مختلف القطاعات إعادةَ لبنان وجهةً سياحيةً مميزة في المنطقة خلال الصيف الماضي.
وليست الوقائع أفضل حالاً على الخط المالي، حيث تعمّدت الحكومة عبر وزارة المال، حشو مشروع الموازنة بحزماتِ ضرائب وزياداتٍ مضاعَفة عشرات المرات تصيب المكلَّفين أنفسهم الذين يلتزمون سداد المستحقات السنوية، فيما تستمر قصداً بإغفال مكامن التهرب الضريبي الذي تناهز أرقامه 4 مليارات دولار وفق تقديرات محلية ودولية، كما تقفز فوق حقيقة طغيان الاقتصاد الأسود على القطاعات المشروعة وبنسبة تفوق 40 في المئة بحسب بيانات مثبتة لدى الهيئات الاقتصادية المعنية.
ومن دون حَرَجٍ أو مواربة، لا يتردّد رئيس لجنة المال النيابية ابراهيم كنعان في وصْف مشروع الموازنة المطروح على طاولة التشريع بأنه بلا رؤية اقتصادية واجتماعية وبلا أهداف اقتصادية، مبيّناً أنه «لم يتم احترام مواد الدستور في مشروع الموازنة، ولا سيما في مسألة إدراج بنود ضريبية ورسوم وغرامات مستحدثة أو معدّلة من دون رؤية متكاملة ومن خلال قانون خاص كما تنص المادة 82 من الدستور، لذلك، لا نريد التكاذب، فنحن أمام مشكلة خطيرة وهي أن التركيز في موازنة 2024 هو فقط على جمْع الايرادات ليس الاّ، وحتى لو كانت دفترية غير قابلة للتحصيل».
وفي الخلفية، تحاول لجنة المال التصدي لأي محاولة لإصدار الموازنة بمرسوم حكومي، ومن دون أي تعديلات. وبحسب
كنعان، فإن الحكومة رفعت المسؤولية عن نفسها، من دون تعمُّق في الدرس، وعدد من وزرائها يتواصلون معنا ويرفعون الصوت ضد بعض المواد، ليسأل «ألم يقرؤوها قبل الموافقة عليها؟».
وفي المقابل، تؤكد وزارة المال أن مشروع موازنة 2024 يصبّ في خطّة التعافي الموضوعة من الحكومة، وهي استكمالٌ لمسار التصحيح الذي بدأ مع إقرار موازنة 2023 والاجراءات المؤاتية التي أقرّتها المالية العامة، والتي أنتجت اليوم استقراراً مالياً ونقدياً وثباتاً في سعر الصرف، كما لجمت التقلّبات الحادّة في وتيرة التضخم والتدهور في الأوضاع المعيشية التي عاناها المواطنون على مدى أكثر من ثلاث سنوات.
ويَعتبر وزير المال يوسف الخليل، أن تَعاقُب الأزمات المالية والنقدية والمصرفية والاقتصادية المتتالية منذ 2019 أدّى الى انخفاض حادّ في قيمة العملة وموارد الخزينة التي أذابها التضخّم. ولذا، فإن تكييف الرسوم والضرائب مع نِسَب التضخم وتصحيح الخلل الناتج عن فروقات سعر الصرف يخدم المصلحة العامة، ويساهم في دعم الاستقرار المالي والنقدي ويمكّن العدالة بين الفرقاء في الاقتصاد من دون تحميل كلفة التصحيح على حساب فئة دون الأخرى.
وفي إغفالٍ صريح لواقع أن المودعين في البنوك لا يزالون يتقاضون دولاراتهم المحتجَزة بسعر صرف 15 الف ليرة لكل دولار وبحصص لا تتعدى ما يوازي 250 دولاراً شهرياً وفق سعر الصرف الحقيقي، يلفت الخليل الى التهويل «بأن الرسوم
تزداد 30 ضعفاً، بينما لا بدّ من الاشارة أن الليرة خسرت 99 في المئة من قيمتها تجاه الدولار الأميركي، وانخفض سعر صرف الليرة 60 ضعفاً نسبةً لما كان عليه، علماً أننا في زمن تضخم وصل الى 265 في المئة وأذاب قيمة الرسوم التي أصبحت ما دون كلفة الخدمة المقدَّمة، وتالياً لا بدّ من تكييف قيمتها الى حد ما، مع نِسَب التضخم».