مهما بلغ من الأهمية تطوير الإنسان أي جانب من جوانب الشخصية الإنسانية، لأن في الحقيقة تكلفته ليست كبيرة، ولأن بعض الأحيان قد يكون ذلك الخيار الوحيد، ولأن النجاح فيه قد يكون بعيد الأثر وواسع الأصداء، لذا يمكن أن ينعكس على جميع جوانب الحياة.
إن التقدم العضوي محكوم ببعض المسلّمات والحتميات التي تجعله يقف عند حدود معينة، ثم يدخل في مرحلة التراجع والتدهور التام، كما أن تقدم الإنسان المادي قد تعترضه معوقات كثيرة، وقد تُستنفد الموارد الأساسية المستخدمة فيه.
أما التقدم الروحي والعقلي، فإن مساحة النمو أمامه ما زالت فسيحة جداً. إنّ العقل البشري نعمة عظيمة من الله - جلّ وعلا - وله قدرات خارقة، هي أكثر مما يظن، وهو أشبه بعملاق نائم.
وقد أثبتت الدراسات النفسية والتربوية وأبحاث الفيزياء والرياضيات والكيمياء أن ما تم استخدامه من إمكانات العقل الهائلة لا يزيد على (1 ٪) من إمكاناته الحقيقية. هناك كمبيوتر يعتبر حاسباً عملاقاً، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة عام، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة! {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. (المؤمنون 14).
إنّ للعقل شكلاً ومضموناً، فشكله تلك القدرات والإمكانات التي زوّد الله - تعالى - بها دماغنا، مثل قدرته على خزن المعلومات واسترجاعها، ومثل قدرته على التحليل والتخيل والتركيب... وأما مضمون العقل فمنه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي تستخدم في استيعاب الأشياء وإدراك العلاقات بينها، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين، وإدراك أن الكل أكبر من الجزء، واستحالة القيام بعمل خارج الزمان والمكان، والتمايز بين الأمم والأفراد في استخدام تلك المبادئ شبه معدوم.
القرآن الكريم يركز على المضمون الفكري المكتسب باعتباره شيئاً قابلاً للتصحيح والتنمية، كما أنه قابل للكثير من الضلال والانحراف، وما ذلك إلا لأنه يعكس الشروط الاجتماعية والتاريخية للثقافة التي تغذيه، وتمده بالمفاهيم المكونة لوجوده، والتي تحرك الوعي وتوجهه في نهاية الأمر.
والقرآن الكريم في سبيل ذلك لا يستخدم لفظ العقل أو الفقه أو الفكر، وإنما يستخدم صيغة الفعل (يعقلون)، (يفقهون)، (يتفكرون)، ليشير إلى المحصول النهائي الذي يشكل العقل ومضامينه، والذي يتجلى في سلوك المرء، ويحدد مواقفه، كما ينظم ردود أفعاله.
إن كثيراً من تطورنا العقلي يأتي من خلال التعليم الرسمي، لكن ما إن نترك مقاعد المدرسة أو الجامعة حتى نترك عقولنا للتجمد - إلا ما رحم ربي - فلا نقوم بأي قراءة جادة، ولا نستكشف موضوعات جديدة بعمق حقيقي خارج دائرة عملنا اليومي، ولا نفكر بطريقة تحليلية، ولا نختبر قدراتنا من خلال الكتابة والتعبير عن أنفسنا بلغة منفتحة وواضحة ومختصرة، بل نستسلم ونقضي وقتنا في الجلوس لرؤية التلفاز أو متابعة ما لا يفيد ولا ينمي ويطور العقل في وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي الختام، فإن أفكارنا حول التجديد والتغيير والنمو ستظل عديمة الفائدة، ما لم نمتلك الإرادة الصلبة التي تكتشف الإمكانات وتصنعها.
M.alwohaib@gmail.com
mona_alwohaib@