«الراي» استطلعت أوضاعَهم... مَن بقوا ومَن غادروا ومَن يتريّثون

أجانب لبنان بين تحذيرات سفاراتهم وتعلُّقهم بـ «وطن الأرز»

وداعاً بيروت؟
وداعاً بيروت؟
تصغير
تكبير

- غالبية الطلبة الأجانب الخاضعين لبرامج التبادل غادرت لبنان وباتت تتابع دراستها «أونلاين»

منذ أن أَطْلَق «حزب الله» في 8 أكتوبر «حربَ إشغالِ» الجيش الإسرائيلي على الجبهة الجنوبية للبنان غداة انفجار «طوفان الأقصى»، أُغرقت بيروت بالبيانات و«العواجل» من سفاراتٍ غربية وعربية تحضّ رعاياها على عدم السفر إلى «بلاد الأرز» ومغادرتها فوراً أو اتخاذ أقصى درجات التحوّط لَمن اختار البقاء «الاضطراري».
وعمّقتْ الوقائعُ العسكرية المتدحرجة على طرفي الحدود، على امتداد الأسابيع الأربعة الماضية، المخاوف من انزلاقِ لبنان إلى الحرب، بخطأ كبير أو قرار كبير، خصوصاً مع «التمدُّد» المخيف لـ «قواعد الاشتباك» في الأيام الأخيرة خارج حدودها المعهودة، وإن في إطار تعديلٍ متبادَل لـ «توازن الرعب» وإرساء معادلاتٍ متوازية أكثر اشتعالاً، وكان آخِرها كسْر إسرائيل التفاهم الضمني على تحييد المدنيين باستهدافها سيارة سقطت فيها 3 فتيات وجدّتهن، وازدياد عمق صواريخ «حزب الله» و«حماس» التي بلغت حيفا والجولان (من جنوب لبنان) والزج بأسلحة أكثر تطوراً ودقة، في مقابل توغل القصف الإسرائيلي وغاراته في الجغرافية اللبنانية وصولاً إلى شمال الليطاني.

ومع استمرار «طبول الحرب» التي قد تقع غداً ويمكن ألا تقع أبداً، بدا أجانب لبنان عالقين بين فكي كماشة: ترْك كل شيء خلفهم والمغادرة أو البقاء ومواجهة خطر الحرب جنباً إلى جنب مع أهل لبنان.
خيار الرحيل أو البقاء لا يتوقّف على الأفراد وحدهم وهو في الجزء الأكبر منه رهن حكوماتهم وسفاراتهم.
فحين تصدر الأوامر بالجلاء ما عليهم سوى الانصياع إذ بعد ذلك لا ينفع الندم. وكثرٌ الأجانب الذين غادروا بيروت في الفترة الأولى بعد السابع من أكتوبر، ومَن اختار التريث كان في سِباق يومي مع التهويل بالحرب الشاملة، أما مَن حسم أمره بالبقاء فقد عدّل مخاوفه وجعلها على «الموجة اللبنانية» فطالما اللبناني صامد يصمدون معه.
ميشيل السويسرية
«الراي» جالت على بعض أجانب بيروت لاستطلاع أوضاعهم وخياراتهم.
عائلة ميشيل، الصبية السويسرية التي تتابع دراستها في لبنان، وجدتْ نفسَها عالقةً في لبنان بعدما أوقفت الخطوط السويسرية رحلاتها من وإلى بيروت، فلم تستطع العائلة المغادرة في الوقت المحدّد في بطاقة سفرها ووفق الخط المباشر المعتمَد بين البلدين.
وعلى وقع قرع طبول الحرب، غرق والداها الزائران في حالة من الذعر، هما اللذان يعيشان في أكثر بلدان العالم أمناً وأماناً. استغرقهما استبدال بطاقة السفر وتأمين رحلة على متن خطوط جوية أخرى يومان، والسفرة التي لا تحتاج في العادة إلى أكثر من أربع ساعات طالت 11 ساعة للوصول بعد توقف طويل في مطار إسطنبول.
غادر الوالدان لبنان على جناح السرعة خوفاً مما سيطرأ وطلبا من ابنتهما الطالبة في الجامعة الأميركية الالتحاق بهما على الفور. وهكذا كان، تركت ميشيل دراستها الحضورية والمنزل الذي تسكنه وعادت إلى سويسرا على الفور عن طريق دبي، لتستعيد تجربة متابعة دروسها الجامعية عن بُعد كما في زمن «جائحة كورونا».
وتقول ميشيل إن «غالبية الطلبة الأجانب الذين يخضعون لبرامج التبادل الطالبي غادرت لبنان وباتت تتابع دراستها أونلاين آمنة في بلدانها».
صوفيا وسارة الفنلنديتان
صوفيا، صبية فنلندية تعمل في معهد ثقافي تابع لبلدها في لبنان، طُلب إليها المغادرة لبعض الوقت والتوجه إلى جزيرة قبرص القريبة لإنجاز بعض الأعمال مِن هناك. لَبّتْ الطلبَ بسرعةٍ وغادرتْ بيروت، لكنها تأمل بالعودة في أسرع وقت إلى البلد الذي أحبّت أجواءه وترغب في تمضية ما تبقى من فترة تدريبها في عاصمته.
أما مواطنتها سارة فلم تتأثر بأجواء الحرب التي تهدّد لبنان ولاتزال صامدة فيه ولا رغبة لها في المغادرة.
وعند سؤالها إذا كانت تخشى على سلامتها من البقاء في بلد مهدَّد بالحرب، تقول إنها عملت مع جيش بلادها في وقت سابق وتلقّت تدريبات حول كيفية التعاطي مع الأزمات ولذلك تجد نفسها مستعدة للتعامل مع ما يمكن أن يطرأ في لبنان.
جويل الفرنسية
فرنسا طلبت من مواطنيها الموجودين في لبنان والمسجّلين بالسفارة في بيروت أن يبادروا إلى تخزين الأدوية والمواد الغذائية الجافة والمياه لمدة شهر على الأقل ّإذا لم يشأوا المغادرة، كما أعلمت مَن ليست لديه أعمال ملحّة وضرورية بأفضلية المغادرة.
جويل، الفرنسية التي تعيش في لبنان منذ فترة طويلة، لم تتأثّر حقاً بهذه التعليمات. فهي كما سائر اللبنانيين عايشت حروباً وأزمات عدة وتعرف جيداً كيف يتخطّاها لبنان في كل مرة رغم كل ما تحمله من صعوبات.
في المقابل اختار صديقان لها من هولندا المغادرة بسرعة خوفاً من أن يَعلقا وسط الحرب إذا توقفت حركة مطار بيروت، وهو الأمر الذي تشيع له باستمرار وسائل الإعلام ويهدّد به العدو الإسرائيلي في حال اتسعت رقعة الصراع نحو الانفجار الشامل.
السفاراتُ الأوروبية والغربية العاملة في بيروت طلبت في غالبيتها من رعاياها المغادرة لكنها أبقت على طواقم عملها الأساسيين فيما غادر أفراد عائلاتهم ولا سيما مَن لديهم أطفال صغار. حتى أن سفارة ألمانيا وجهت طلباً عبر الخارجية اللبنانية لإرسال أفراد من الجيش الألماني الى بيروت ليتولوا مهمة «منْع الأذى عن المواطنين الألمان على أراضي الجمهورية اللبنانية وإنقاذ هؤلاء عندما يكونون في محنة»، وذلك بعدما كانت حضّت رعاياها على المغادرة.
يوهانس الألماني
ورغم هذا الأمر، يقول يوهانس وهو شاب ألماني يمضي فترة تدريبية في لبنان إنه لايزال مستعداً للبقاء في بيروت مادامت الأمور لم تبلغ مرحلة الخطر.
إحدى المواطنات الأستراليات وهي تعمل في جمعية إنسانية وَجدتْ نفسها مضطرة للمغادرة ليس بسبب طلب حكومتها ذلك بل لكون صورة الطفل الأسترالي آيزاك أوهلرز الذي قضى في انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 لاتزال عالقة في ذهنها، وصورة لوعة أهله عليه لاتزال تؤرقها.
وقد أرادت المغادرة حتى لا تعرّض نفسها لهذه الصور والمشاعر القاسية من جديد، هي التي شهدت على الكثير من المآسي إثر انفجار المرفأ وعايشت الألم والدم والفراق ولم يعد باستطاعتها تحمل أزمة إنسانية أخرى.
لكن رغم دعوة السفارات لمواطنيها إلى مغادرة لبنان إلا أن الكثيرين من الأجانب المقيمين على أرض هذا البلد الصغير لم يتأثروا بهذه الدعوات واختاروا البقاء على أرضٍ احتضنتْهم وباتوا جزءاً من نسيجها الإنساني.
بروتشر الأميركية
عائلة بروتشر الأميركية مع أبنائها الأربعة لا تزال في لبنان... فالعائلة التي تعمل في ميتم للأطفال ترفض رفضاً قاطعاً التخلي عن هؤلاء في الظروف الصعبة. اتخذت احتياطاتها كسائر اللبنانيين وهي على تواصل مع سفارتها للاطلاع على التعليمات في حال نشوب حرب لكنها مستمرة في عملها وأبناؤها يتابعون عامهم الدراسي كسواهم من الطلبة اللبنانيين من دون أي اضطرابات تُذكر حتى اليوم.
وحين نسأل الوالدين عن التموين يضحكان قائلين «لا يزال لدينا ما يكفي من المؤونة منذ جائحة كوفيد، والسوبر الماركت القريب منا ممتلئ بالبضائع. نحن لا نخشى الجوع ونعرف كيف نحافظ على سلامتنا وسلامة أبنائنا. فقد خضعنا لدورة تدريبية سابقة لإدارة الأزمات الطارئة والتعامل معها. والمهم أن نؤمن سلامة أطفال الميتم».
كلود وفيرا الكنديان
كلود المواطن الكندي وزوجته فيرا اللذان قدما إلى لبنان لاستكشاف إمكان العمل في منظمة إنسانية تعنى بشؤون اللاجئين السوريين وباشرا بتعلم اللغة العربية، كانا أوّل مَن لبّى نداء السفارة الكندية بمغادرة بيروت. تركا كل شيء خلفهما ورحلا مسرعيْن. والأمر ليس مستغرباً، إذ سبق لهما أن عاشا مرحلة الثورة الشعبية في تونس وشهدا إحراق البوعزيزي لنفسه وما تلا ذلك من اضطرابات في الشارع وخشيا أن يتكرر الأمر ذاته في لبنان ليس على صعيد اضطرابات داخلية بل حرب عسكرية مع كل ما يعنيه ذلك من أخطار.
بعض الأجانب غادروا لا خوفاً من حربٍ محتمَلة بل رغبةً منهم بعدم التواجد في بلد عربي متعاطف مع فلسطين.
وتقول لميا وهي صبية لبنانية شاركت في مسيرة اعتراض إلى السفارة الأميركية إن صديقتها الأميركية لم تفهم موقفها هذا أبداً واتهمتْها بـ «الدفاع عن قتلة» ولم تقتنع بأي من شروحاتها حول عدالة القضية الفلسطينية، ففضّلتْ مغادرةَ بلدٍ تقول إنه يتعاطف مع «الإرهاب».
رغم كل ذلك، مَن يسِر في شوارع بيروت السياحية مساءَ يتفاجأ بعدد الأجانب الذين ما زالوا يقصدون المطاعم والمقاهي.
هنا 6 شبان إنكليز يتحلّقون حول طاولة يتبادلون الأحاديث ويضحكون بصوت مرتفع، وهناك شاب وصبية أجنبيان لايزالان يستمتعان بصيف بيروت الذي لا ينتهي. وفي غمرة انشغالهما لم يسمعا طبول الحرب التي تَقرع أبواب لبنان.
... هكذا هم الأجانب يستبقون الأمور يضعون الخطط للتعامل معها ويعرفون أن بإمكانهم الاعتماد على سفاراتهم وحكوماتهم إذا اشتدت المحنة. ومَن عايش بينهم أزمات لبنان المتتالية تآلف مع وضع هذا البلد المهتزّ وارتدى «درع الصمود» نفسه الذي يلبسه اللبنانيون. أما أصحاب الإقامة الموقتة المتردّدون أصلاً في القدوم إلى لبنان والخائفون من أوضاعه، فهم الذين سارعوا إلى المغادرة مع أولى إشارات الاضطرابات.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي