اتجاهات

الولايات المتحدة بين مفارقة القيم والمصالح

تصغير
تكبير

منذ قطيعتها التامة عن سياسة العزلة وتورطها في الشؤون الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، يدعي صناع السياسة الخارجية الأميركية؛ أن القيم (مجموعة القيم الليبرالية، والدمقرطة، واحترام حقوق الإنسان، واحترام القانون الدولي) هي الأساس الحاكم للسياسة الخارجية الأميركية.
حيث يلاحظ أن أي مرشح رئاسي أميركي يجب أن يؤسس برنامجه الانتخابي بالكامل على أساس تحقيق القيم الأميركية والحفاظ عليها، أو في إطارها. بما في ذلك استخدام القوة العسكرية التي يجب أن يتم التذرع بها استناداً إلى القيم الأميركية أو الحفاظ عليها.

وإحقاقاً للحق، ساهمت الولايات المتحدة بالدور الرئيسي في الموجة الثالثة والرابعة للتحول الديموقراطي في كل من أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية. كما لها الريادة في ترسيخ النظام الرأسمالي العالمي الذي اتبعته معظم دول العالم كنموذج حتى الصين وروسيا.
لكن على الجانب الآخر، تبدو المفارقة العجيبة للولايات المتحدة، وهي ضربها لتلك القيم عرض الحائط حال تعارضها مع مصالح حيوية واقعية، مع الاستمرار في الادعاء باحترام القيم الأميركية بالتوازي مع السعي لتحقيق المصالح الواقعية.
وعلى ذلك، نستطيع استنتاج حقيقة جوهرية للسياسة الخارجية الأميركية وهي أولوية المصالح على القيم في المقام الأول والأخير. وعدا ذلك هو مجرد أوهام. إذ إن قيام الولايات المتحدة بالترويج للقيم الأميركية والدفاع عنها، بمقدار ما يفيد حقاً الشعوب، بمقدار ما يفيد أكثر المصالح الأميركية في المقام الأول.
فترسيخ النظام الرأسمالي العالمي مثلاً، يفيد في المقام الأول الشركات الأميركية ورفاهية المواطن الأميركي، وزيادة هيمنة الاقتصاد الأميركي على النظام الاقتصادي العالمي.
والملاحظة المهمة الأخرى، أن احتكار الولايات المتحدة لمسألة الدفاع عن القيم (التي تدعي أنها طبيعة إنسانية عالمية)، يعزز من هيمنة الولايات المتحدة على العالم، فالقيم تعد ضلعاً أساسياً من ثالوث القوة الأميركية (التاجر، والمحارب، والمبشر) الذي وضعه الآباء المؤسسون.
إذ يلاحظ في هذا الصدد، أن تعاطي الولايات المتحدة مع خصومها الرئيسيين، خصوصاً الصين، يجب أن تبرز فيه مسألة القيم كورقة ضغط حيوية جنباً إلى جنب مع التعاون البرغماتي في ملفات أخرى. وعندما تغضب واشنطن من نظام أو دولة ما، تشيطنه صباحاً ومساءً في جميع المحافل الدولية، وتُخرج من جعبتها ترسانة القوانين والعقوبات ضده بذريعة الانتهاكات الخطيرة لتلك القيم، خصوصاً حقوق الإنسان.
وتعد المنطقة خصوصاً منطقة الخليج، من أهم المناطق التي برزت فيها مفارقة القيم والمصالح الأميركية بوضوح شديد. خاضت الولايات المتحدة منذ إدارة بوش حربين في المنطقة بذريعة نشر الديموقراطية ومحاربة الإرهاب وتأسيس نظم تحترم حقوق الإنسان والقضاء على الطغيان.
لكن كان وراء هذه الحروب استدامة الهيمنة الأميركية ومحاصرة القوى الصاعدة المنافسة (الصين وروسيا وإيران)، والهيمنة التامة على النفط والملاحة البحرية، إذ هل يعقل أن تنفق الولايات المتحدة ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار في تلك الحرب من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان!؟
وعندما تحولت السياسة الأميركية في المنطقة بدرجة كبيرة نحو التراجع نظير التركيز على آسيا، منذ عهد أوباما، كان المنطلق لذلك هو تواري المصالح الحيوية لواشنطن في المنطقة خصوصاً النفط، وتنامي أهمية آسيا في الحسابات الإستراتيجية الأميركية، لاسيما الرعب من الصعود الصيني.
لذا، على الرغم من أن أوباما كان من أكثر رؤساء الولايات المتحدة في تاريخها اهتماماً بأهمية التشديد على القيم الأميركية في السياسة الخارجية الأميركية وبخاصة أهمية الدفع بالقوة الناعمة والديبلوماسية. ومع ذلك، تخلت إدارته عن المبادرة والمتابعة في الأزمة السورية واليمنية والليبية.
كما تعاملت مع دول الخليج بقدر من الاستعلاء، قد تجلى في تقديم أجندة القيم على أجندة المصالح بسبب تراجع المصالح الحيوية لواشنطن مع دول الخليج. والغرض كان-بجانب الاستعلاء- هو الضغط التام على دول الخليج لتقديم الكثير من التنازلات السياسية والاقتصادية. ونذكر هنا تراجع إدارة أوباما نسبياً عن مسألة القيم في نهاية عهدها بسبب عقود صفقات سلاح ضخمة تقدر بمئة مليار لدول الخليج.
ويمكن اعتبار أن إدارة ترامب صورة طبق الأصل من إدارة أوباما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية في المنطقة، حيث برز الجانب المصلحي بشكل فج من حيث ابتزاز دول الخليج صراحة من أجل دفع المزيد من أجل الحماية.
وكان الرئيس بايدن صريحاً للغاية أثناء حملته الانتخابية في شأن القيم الأميركية خصوصاً الضغط على دول الخليج من أجل تحسين ملف حقوق الإنسان والتحول الديموقراطي ووقف الحرب في اليمن ومحاسبة الانتهاكات المرتكبة هناك للقانون الدولي الإنساني.
لكن بمجرد اشتعال الحرب الأوكرانية وتفاقم أزمة الطاقة، ما لبث أن قام بزيارة إلى السعودية التي يكن لها عداءً شديداً لمساعدته على حل الأزمة. ليس هذا فحسب، بل أعادت الولايات المتحدة مراجعة إستراتيجيتها في المنطقة من أجل ضمان البقاء لأطول مدة ممكنة عبر وعود واقعية بالحماية العسكرية والمساعدات الأمنية والاستثمارات الاقتصادية، في ظل تنامي مخاوف من فراغ تحتله الصين وروسيا.
نافلة القول، نحترم جميع الاتجاهات الفكرية في علم السياسة، لكن ستظل الواقعية هي الأساس الحاكم في العلاقات الدولية. المصالح وفقط هي التي تحكم علاقات الدول، والقيم هي لخدمة المصالح. الولايات المتحدة القوة العظمى في العالم، تستخدم القيم لتحقيق مصالحها، تتعاون وتدافع وتحمي أسوأ النظم الشمولية في العالم إذا اضطرت المصلحة لذلك.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي