أعتقد بأن ما يجول برأسي منذ سنوات قد كبر، وبات من المستحيل أن يسعه رأسي. لم أعد قادرة على تهدئته أو بالأحرى لا أريد، لأن على الرغم من فضاضته إلا أنه أصدق عابرة مرت عليّ.
كثيراً ما أتساءل بحكم هوسي بالتراث والترميم، منذ متى ونحن نربط الهدم بالتطور؟ ودائماً ترجعني الذاكرة إلى لحظة هدم السور الثالث لمدينة الكويت في بداية الخمسينات القرن الماضي وما تلاها من نهضة عمرانية شاملة غيّرت ملامح البلاد رأساً على عقب.
فخلال العشر سنوات التالية ولدت مدينة حديثة لا تمت بالطين صلة، ونفضنا أنفسنا من الغبار العالق علينا إثر هذه المواد العتيقة، ولبسنا ثياب الحداثة وتزينا ببيوت وصروح تليق بدورنا الجديد على هذه الأرض.
هنا أقف. هنا ومن غير قصد (أو من قصد) ارتبط الهدم بالتطور. فنحن ببساطة نهدم لنفسح الطريق، نهدم لننسى ونصفح، نهدم لننهض من جديد.
أنا لا أدعي بأننا خسرنا ولم نكسب من هذه النهضة. بل على العكس كسبنا تراثنا الحديث الذي مازال يتبختر بين أرجاء مدينتنا متكأ على بضع مكاتب وأسواق بسيطة تمسكت به لغلاء ما حوله. لكن ما خسرناه بالمقابل هو تجاهلنا أن الكويت لن تشهد ما شهدته منذ أكثر من سبعين سنة مرة أخرى. ولا أظن أن لنا الكرة بأن نكون جزءاً من مضاعفات هدم مدينة كاملة. فما تم هدمه منذ أكثر من سبعين عاماً مازلنا نجني أثره بنا، بفكرنا وبارتباطنا.
ما جنيناه هو ثقافة تهدم لتبني، ثقافة بنيت على النقيض فيستحيل علينا أن نمضي قدماً أو نكبر أو نتعمق. جنينا ثقافة عالقة بأبعاد الزمن.
نعم، كتب التاريخ على ورق ونعم بنينا ديارنا على أرض العدم. إلا أن الأقلام التي كتبنا بها تاريخنا لم ترفع وأرض العدم هذه لم تكن قط عدماً إنما كانت كياناً ووئداً. ولم نعط الصحف الوقت الكافي بأن تجف وترسخ بأذهاننا. فمازلنا نغيّرها، نعدّلها، نجمّلها وفي بعض الأحيان نقبّحها. نعبث بها إلى أن تبتعد كل البعد عن الأصل. مازالت الأقلام تكتب ومازال الحبر يسيل على أطراف المدينة. والمدينة تعوم بين ما كانت عليه وما أصبحت، تترنح بين الحقيقة وظلها.
في الهدم فظاعة لا أربطها إلّا بالدمار، في الهدم ضياع لتاريخ، لقصص ولذاكرة المكان.
هناك عبارة ترن في ذهني سمعتها من شخص في ما مضى. يقول «نحن لا نوالف الحديد». نعم، نحن لا نألف الجامد الساكن، لكن هذا الجمال هو ما يحضن ذكرياتنا، مبادئنا، تفاصيل حياتنا. نعم، هذا الجماد لا يتكلّم ولا يعبّر لكن بلاغة المكان كفيلة بأنه تعطيه صوتاً يصدح بأرجاء المدينة ويقول «أنا مرجعكم، أنا الذاكرة، احفظوني».
ارفعوا الأقلام من على الورق وأوقفوا الجرافات. ودعوا الصحف تجف والمباني تتجذّر بالأرض.
العابرة مرت وانتهت.