واشنطن تدعم نتنياهو من دون حساب... والاجتياح آتٍ لا محالة
فلسطينية تصرخ من هول الصدمة أمام المستشفى المعمداني في غزة أمس (أ ف ب)
أطفال يسيرون فوق أنقاض مبانٍ دمرتها الغارات في خان يونس (رويترز)
لم يحضر الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل للقاء رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو وإظهار مساندته له في ما حدث في غزة من مجازر وآخِرها مستشفى الأهلي العربي المعروف بالمستشفى المعمداني الذي ذهب ضحيته مئات الشهداء الفلسطينيين.
بل حضر ليُجسّد الدعم الكبير لإسرائيل وللعمل الحربي الذي تعدّ له لاجتياح غزة في الأيام المقبلة، وللتأكيد أن القوات الأميركية أصبحت مقابل الشواطئ اللبنانية وفي قبرص، وأن قوات أخرى قادمة لدعْمه في الجبهة الشمالية التي ينشط فيها «حزب الله» وينفّذ يومياً ضربات مميتة لفرقة الجليل من دون التعرّض للمدنيين من كلا جانبيْ الحدود ما يُبْقي المناوشات تحت السيطرة حالياً.
وإذا كان هذا يدلّ على فقدان إسرائيل القدرة على حماية نفسها وحاجتها لقوة عظمى تمدّ لها يد العون لتبقى، وعلى أن جيشها أصيب بالترهل فعلاً، فإن أفكاراً عدة تُطرح لإيجاد حل سلمي بدل اجتياح غزة. وعلى سبيل المثال، قُدمت أفكار أميركية تقضي بتسليم سلاح «حماس» و«الجهاد الإسلامي» ومنْح السلطة الفلسطينية السيطرة على القطاع ونشر قوات حفظ سلام داخل حدود غزة لمنع أي خروق مستقبلية كما هي الحال مع جنوب لبنان والجولان السوري المحتل. ويتضمّن ذلك تسليم جميع الأسرى العسكريين الإسرائيليين والرهائن المدنيين المخطوفين مقابل إطلاق نحو 5000 فلسطيني من السجون الإسرائيلية.
ولكن هذا الطرح ينطوي على ثغر عدة تمنع تنفيذه وتؤكد أن الاجتياح الإسرائيلي آتٍ لا محالة، إذ لا يمكن القبول بحدود غزة لأن ذلك يعني أن فلسطين ضاعت نهائياً وأن الوجود الفلسطيني أصبح في غزة فقط، ليتسنى لإسرائيل قضْم ما تبقى من الضفة الغربية تباعاً إلى حين إفراغها واعتبار القدس ملكاً لإسرائيل وعاصمتها الأبدية لوحدها.
ولا تستطيع المقاومة تسليم سلاحها لأن ذلك سيعني خسارة قوة الردع الفلسطينية، كما حدث لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1982 عندما اجتاحت إسرائيل لبنان.
ولا يمكن تسليم السلاح من دون قتال لأن ذلك يسهل على إسرائيل إنهاء المعركة دون إراقة المزيد من الدماء الإسرائيلية. وهذا ما لن يقبل به أي مقاوم ولا سكان غزة الذين فقدوا نحو 15.000 بين قتيل وجريح في الأيام الـ12 الماضية، أي منذ بدء العملية العسكرية للفصائل الفلسطينية، وتَهجّر منهم 500000 إلى مدارس «الأونروا».
لكن هنا، يجب التوقف عند أداء المقاومة الفلسطينية في اليوم الأول من الهجوم على مستوطنات غلاف غزة. ففي الساعات الثلاث الأولى، استطاع 1200 مقاتل فلسطيني السيطرة على 11 نقطة عسكرية لفرقة غزة التي عاثت فساداً ودماراً داخل القطاع لسنوات طويلة.
واستطاع المقاتلون تدمير وإحراق مراكز عدة للشرطة وإنهاء أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر» وكسروا الردع الإسرائيلي ليُظْهِروا هشاشته وزرعوا عقيدةَ اللا يقين في نفوس المستوطنين الذين فقدوا الثقة بالجيش وبقدرته على حمايتهم.
إلا أن الهجوم على المدنيين وخطف النساء (ليس المجنّدات) والأطفال وارتكاب أعمال السرقة أضرّ كثيراً بما حصل من انهيارٍ للجيش الإسرائيلي.
وتالياً، أخطأت «حماس» بعدم التنبه لهذا الأمر الحساس جداً للمجتمع الدولي وللغرب تحديداً. بالإضافة إلى ذلك، فقد أظهر قتْل المدنيين في الملاجئ وكأنه هجوم إرهابي استغلّته إسرائيل لمصلحتها الإعلامية لتُظْهِر وكأنه هجوم على اليهود وقتْلهم لمجرد دينهم، رغم تنكيل إسرائيل بالفلسطينيين منذ أيام النكبة عام 1948 وقتلها أكثر من 150.000 فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين والأطفال والنساء والشيوخ وسلب إرادة الشعب المظلوم لعقود.
وهذا ما دفع أميركا للحضور إلى منطقة الشرق الأوسط بحاملات طائراتها ووحدات «الدلتا» وقوات بحرية وبرمائية وقوات مشاة لدعم قواعدها الموجودة في الشرق الأوسط والتحضر لعملية عسكرية ضدّ لبنان إذا فتح «حزب الله» المعركة على الجبهة الشمالية.
اما الأسئلة الملحّة الآن فهي: هل تحضّرت المقاومة الفلسطينية بمخازنها لحصارٍ طويل وإغلاق المعابر وخسارة آلاف المدنيين وقطع المياه والكهرباء والمواد الطبية التي فُقدت كلياً في 18 من أصل 20 مستشفى في غزة؟
وهل إطلاق 4500 أسير فلسطيني - بينهم معتقَلون منذ أكثر من 20 عاماً إدارياً ومن دون محاكمة وآخرون صغار ونساء - يساوي عملية كلّفت حياة نحو 4000 لغاية اليوم مع عدد كبير تحت الأنقاض؟
وهل حسبت المقاومة حساب إمكانات «محور المقاومة» وتَهَيُّئه للمعركة وتحضير بيئته الحاضنة لنتائجها المدمّرة أم أنها فَرضت المعركة على الجميع من دون تحضير مسبق لِما سيترتب عليها من تبعات لم تبدأ بعد لأن الاجتياح مازال في مرحلة التحضير؟
كلها أسئلة ستُطرح - بعيداً عن العاطفة والشعور الذي يطغى على الشرق أوسطيين بفرحة الانتصار على عدو غاشم تدعمه المجموعة الغربية دون حدود وتسمح له بأن يقتل دون حساب - من خلال تقييم ما حصل في غزة بعد نشوةِ الساعات الأولى ليوم السابع من أكتوبر 2023.
لكن الوقت ليس للمحاسبة بينما تُقصف المستشفيات والمدارس والمنازل المدنية والطرق والبنية التحتية، بل للسعي لوقف إطلاق النار وإيجاد تَوازُنٍ يحفظ ما تبقى من غزة (القليل) ولمنع الاجتياح قبل وقوعه.
وهذا ما يبدو السيناريو الأكثر احتمالاً ويَظْهَر أن غزة تتحضر للأسوأ، إذ تقول مصادر فيها أنها تعتقد «أن الاجتياح البري سيتسبّب بما مجموعه 50.000 قتيل فلسطيني على الأقل وان إسرائيل لن تستطيع اجتياح القطاع والبقاء فيه لجهوزية المقاومة».
وتبقى الديبلوماسية الحلّ الضعيف ولكن الأنسب لوقف معاناة شعبٍ لم يعانِ مثله شعب آخر منذ نحو 73 عاماً.