قلّبت صفحات التاريخ من خلال تصفح الأعداد الأولى من مجلة العربي منذ 1959م وما حوته من مواضيع دسمة تتميز بغزارة البحث ودقة التفاصيل وتنوع الموضوعات ما بين ثقافة وأدب وإسلاميات وعروبة وطب وشعر، ومتنوعات ولفت نظري في ذيل الصفحة أسعار بيع المجلة في العالم العربي وهو مبلغ لا يتعدى القروش والملاليم والدراهم!
رغم ما تحمله من قيم ومعانٍ كانت وما زالت وستظل منارة من منارات العلم والمعرفة في سماء الكويت شاهدة منذ عهد الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح، طيّب الله ثراه، على عطاءات الكويت وتميزها في تاريخها... ومن يطّلع على الأعداد الأولى من المجلة ويقارنها بالأعداد الأخيرة يستطيع أن يميز الفرق بين مرحلتين من مراحل التاريخ وانعكاس المفاهيم في العالم العربي والإسلامي حيث تميّزت الفترة الأولى بالأصالة والمعاصرة، ولكن اليوم لم تعد الأصالة ثابتة الأركان كما كانت، إنما جرفها تيار العولمة واقتصاديات السوق وضعفت القيم وهي الحالة التي نعيشها اليوم وللأسف ومن ذلك مثلاً.
أصبح الأدب في هذا العصر رأياً عاماً يشترك فيه عوام الناس وخاصتهم وعقلاؤهم وجهلاؤهم كما أصبح الفن تجارة يُعلّمها الوالد ولده والمعلم تلميذه... ودخل كل من هب ودب فاقتتلوا اقتتالاً شديداً على انتحاله والتجمل به في مواقع التواصل الاجتماعي... حتى تبدلت الصورة وانعكست الحقائق وأصبح الرجل المخلص أحرج الناس بصدقه وإخلاصه صدراً وأضلهم بهما سبيلاً لا يدري أيكذب فيسخط ربه ويرضي الكاذبين ويُضحكهم؟ أو يصدق فيُرضي نفسه ويُسخط الناس أجمعين؟ ولا يدري أيهجر العالم إلى عزلة في زاوية يقضي فيها بقية عمره غريباً شريداً؟ أم يبرز للعيون في كل مناسبة فيموت كمداً وحسرة على هذا الهبوط المدوي؟
ذلك، لأنه تعلّم من مدرسة الحياة الاجتماعية في الكويت... إن أدب النفس أساس أدب الجوارح، وإن أدب الجوارح تابع له وأثر من آثاره، فإن أبى الناس إلا أن يجعلوا أدب (الحركات البهلوانية، والصراخ، والتبذل، والماكياج، والإسفاف) أساس علاقاتهم وميزان قيمهم وأقدارهم فليعترفوا أن العالم كله مسرح تمثيلي، وأنهم لا يؤدون فيه غير وظيفة الممثلين الكاذبين!
يقول أحد الممثلين المخضرمين (كنا وكان الأدب حالاً قائمةً بالنفس وبالمجتمع بشكل عام تمنع صاحبها أن يقدم على شر أو يحدّث نفسه به، أو يكون عوناً لفاعليه عليه، فإن ساقته إليه نزوة أو شهوة وجد في نفسه عند فعله امتعاضاً ينغّص عليه ويكدر صفو خاطره حتى تغيّرت الأمور فأصبح الفن عبارة عن أشكال وألوان ورسوم لا دخل لها في جوهر النفس ولا علاقة لها بشعور الضمير وصدقه ووجدانه، فأحسن الناس عند الناس فناً وأدباً وأكرمهم نفساً وخُلقاً وأشرفهم مذهباً من يكذب على أن يكون كذباً أبيض مهذباً، ومن يخلف الوعد على أن يُحسن الاعتذار عند إخلافه الوعد!
ومن يقترف من الجرائم ما شاء والمعاصي والذنوب على أن يحسن التخلص من نتائجها وآثارها... بل بقي ما هو شر من هذا جميعه وهو تمثيل الشهوات البدنية والنفسية بجميع ألوانها على مشهد من الأسرة (الرجال والنساء والأطفال) وتصويرها بتِلك الصورة القبيحة التي تُرخي على مثلها الستور وتقام من حولها الدعائم والجدران.
فما بالنا اليوم أصبح المنكر عندنا معروفاً باسم الفن والمعروف منكراً باسم الحرية والإبداع، فهل نصحو من جديد من هذه الغفوة؟!