إنّ ملَكَة الخطابة ليس فقط في ما يتعلق بمحتوى الخطاب وإنما في كيفية الإلقاء حيث تُسهم نبرة الصوت وتعبير الوجه في توصيل المعنى المراد. ولعل من أشهر الخطباء السياسيين المعاصرين المؤثرين بالجماهير الغوغائية والديماغوجية هتلر، ومن أصل 1552 خطاباً له أدرج في 123 خطاباً عبارات أهتز لها العالم بأسره آنذاك في الفترة من 1919م إلى 1945م، وبالتحديد الخطاب المطبوع على آلة كاتبة ويحمل تاريخ 1919م، ويدعو إلى استئصال اليهود بلا هوادة، وتمكن مركز سيمون فايزنتال، اليهودي من شراء الخطاب بمبلغ 150 ألف دولار، وتم عرضه في متحف التسامح في نيويورك وجاء في خطابه «من المؤكد أن اليهودية جماعة عنصرية وليست دينية والمعنى المباشر لذلك هو ان جماعة عرقية غير ألمانية تعيش بين ظهرانينا وتضمر مشاعرها وطموحاتها وأفكارها الخاصة بها وتتمتع في الوقت نفسه بكل الحقوق الألمانية».
وبعد سلسلة خطابات ثورية أوردَ هتلر، نفسه وقومَه المهالك وبئس الوِردُ المورود بعدما عَبدته ألمانيا، وهكذا من جاء بعد ذلك من الزعماء والقادة العسكريين الذين ملأوا الدنيا صراخاً بالخطابات الطنانة، ولكن في نهاية المطاف انتهت إلى لا شيء وكل الطموحات ذهبت ادراج الرياح... فما فائدة الحماس الفارغ من العبارات المسبوكة وجرس الإيقاع إذا كان بعده الخسائر والهزائم والنكبات؟!
وبعد هذه المقدمة أقول في اللغة العربية عرفٌ سائدٌ ان لا فرق بين اللفظ والمعنى، وعلى هذا سارت الحركة الأدبية والشعرية والخطابية في قبائل العرب، فليس اللفظ وعاء وأن المعنى سائل من السوائل يملأ ذلك الوعاء وتارة يكون قلوياً وأخرى حمضياً ويكون حيناً صافياً وأخرى كدراً، ومع ذلك الوعاء باقٍ على صورته لا يتغير؟
وما علموا أن اللفظ والمعنى متمازجان تمازج الزبدة بالحليب والشمس بشعاعها والخمر بنشوتها وعليه لا يجوز أن نصف اللفظ بالجمال والمعنى بالقبح أو العكس... ذلك أن جمال اللفظ جمال معناه وقبحه قبحه. وعليه فأي قطعة شعرية أو خطابية نصف أسلوبها بالجمال إنما نصف بذلك معانيها وأغراضها ومآلاتها وعواقبها. ولا يضطرب اللفظ إلا إذا كان معناه مضطرباً في نفس صاحبه ولا يكتنفه الغموض إلا إذا كان معناه غامضاً في نفسه وما البلاغة والبيان إلا كالمرآة التي ترتسم فيها صورة النفس، فحيث تكون جميلة فهو جميل أو مضيئة فهو مضيء أو مظلمة فهو مظلم، فاذا استطعنا أن نتصور مرآة تكذب في عكس الصورة أمامها استطعنا أن نتصور بياناً يختلف في وصفه عن وصف نفس صاحبه.
والإنسان الحاذق اللبيب يتأنق في اختيار ألفاظه ويضعها في السياق الذي تؤدي فيه معناها بوضوح... ولا تجد في كلامه لفظاً مضطرباً أو نابياً... فانظر مثلاً في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته في قوله تعالى:
«فأكله الذئب» قد يقول قائل لِمَ عبّر بالأكل... وكان من الأنسب أن يعبر بلفظ (الافتراس) وهو المستعمل مع الوحوش والسباع؟!
الجواب نقول لفظ (الافتراس) هو القتل بوحشية فحسب مأخوذ من (الفرسْ) الذي هو دق العنق، ولكن إخوة يوسف، عليه السلام، ادّعوا على الذئب أنه أكله أكلاً وأتى على جميع أعضائه ومفاصله فلم يترك منه شيئاً خوفاً من أن يطالبهم أبوهم بأثر منه ليشهد بصحة دعواهم ولو عبّروا عنه بالافتراس لما أدّى هذا المعنى مع أنهم كانوا من البدو – كما أخبر القرآن – وذِكر الذئاب وغيرها ذائع ومشهور عندهم.
ومثله في التعبير عن الموت بلفظ (الزيارة) «حتى زُرتم المقابر» وهنا ملحظ بلاغي دقيق في معنى الزيارة بأن الإقامة في القبر ليست دائمة وإنما نحن زائرون وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث ونشور وحساب وجزاء وهذه المعاني ينفرد بها لفظ «زرتم» دون لفظ (قبرتم أو سكنتم المقابر) وهنا يكمن سر العلاقة بين اللفظ والمعنى...