وسط الأزمة السياسية التي لا تبدو نهاياتها قريبة، ووسط الصخب النيابي الحكومي المتجدد دائماً دون حواجز أو فواصل، احتفلت الكويت الأسبوع الماضي بالذكرى السبعين لتأسيس مجلس الاستثمار الكويتي في لندن الذي تأسّس العام 1953، أي قبل ثماني سنوات من استقلال البلاد.
ولهذا التاريخ التقدمي وقفة طويلة لاسيما أنه يعكس فكر دولة تنويرياً بمصابيح حمل أصحابها رؤية ثاقبة وبعيدة المدى في استثمار فائض عائدات النفط والمساهمة في تنويع الاقتصاد، في وقت غرقت بلدان كثيرة في لعنة الثروة والاحتفال الموقت بثراء الذهب الأسود.
في عام 1982 أُنشئت الهيئة العامة للاستثمار باعتبارها الكيان الذي تقع تحت مظلته كل الصناديق. حيث تدير الهيئة صندوق الاحتياطي العام، المؤتمن على إيرادات النفط ويتولّى زمام نفقات الميزانية. كما تدير صندوق احتياطي الأجيال القادمة، الهادف لحماية ثروة الكويت، والذي نَمَتْ أصوله حسب التقديرات إلى أكثر من 800 مليار دولار.
ويُعتبر صندوق الكويت السيادي أول صندوق سيادي في العالم، وهو حالياً في المرتبة الثالثة - حسب تصنيف معهد صناديق الثروة السيادية.
ما نذكره ليس جرداً تاريخياً أو تثقيفياً فحسب بل يُشكّل مقدمة مهمة للإشارة صراحة إلى ريادة الفكر الكويتي الاستثماري ورؤية صانعي السياسة المالية وقتها الذين أكدوا أنهم كانوا سابقين لزمانهم.
كما يُدلل ذلك على حصافة رجالات الكويت في الخمسينات من القرن الماضي في صياغة مستقبل ريادي خليجياً وعالمياً بمصدات تحوطية تصون حقوق الأجيال القادمة وتنميها.
وربما لا يُعد سراً أن مهارة الرعيل الأول في التخطيط وهندسة الرؤى التنموية بحصافة دفعت مسؤولي النرويج للاستعانة بخبرات الكويت التخطيطية والاستثمارية قبل إطلاق صندوق التقاعد الحكومي النرويجي في العام 1996 والذي بات بالمناسبة أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم بمجموع أصول تبلغ 1.3 تريليون دولار.
فكرة تأسيس مكتب لندن وبعده الهيئة العامة للاستثمار تختصر الكثير والكثير من تاريخ الكويت الملهم سواء على مستوى الفكر الحكومي أو القطاع الخاص، حيث تؤكد جميع المحطات بالحقائق والأرقام أن الكويت في نشأتها كانت درة الخليج اقتصادياً تفكيراً وتنفيذاً ومبادرة، كما أنه ومع تقدمها اقتصادياً كانت أول إمارة عربية خليجية تُعلن استقلالها في 19 يونيو 1961. وللتاريخ أيضاً يعود سبب تسمية الكويت درة الخليج بشكل أساسي إلى أن الدولة والمجتمع، كليهما كانا مُنفتحين على الحياة، مُقبلين على الأخذ بمستجداتها، دون أن يعوق هذا التوجه عائق من مواقف التشدّد في الفكر أو السياسة.
لكن للأسف «درة الخليج» لم تعُد كذلك، حيث سيطر الصداع السياسي ومنذ سنوات طويلة على الفكر الاقتصادي التقدمي المبادر. وأصبحنا مع ذلك نتغنى بتقدم الدول المجاورة بكل اتجاه.
لكن من حقنا أيضاً أن نستلهم من تاريخنا قبل حاضرهم التجربة الفريدة لمؤسسي الكويت اقتصادياً ونجاحهم ببراعة منقطعة النظير في تفادي أزمة البقاء في محطة الانتظار في وقت يتحرّك الجميع من حولنا وبخطوات ثابتة ومستدامة في كل اتجاه وصولاً للمحطات التنموية المستهدفة لشعوبهم.
وأثناء ذلك حققت العديد من دول الجوار قفزات متتالية يرفع لها القبعة على كل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية فيما نحن محلك راوح نعيش أزمات تلد أخرى ومن بينها تعميق جروح الميزانية العامة والاقتصاد المحلي.
ورغم قسوة المشهد الذي نعيشه اقتصادياً وتعليمياً واجتماعياً وصحياً وهكذا دواليك إلا أننا متفائلون بتجاوز مرحلة الثبات، التي نعيشها منذ سنوات طويلة.
ولعل ما يدعم تفاؤلنا بأن الكويت وبخلاف قدراتها المالية الضخمة وأصولها المتينة المتراكمة، ولّادة في رجالتها حكومياً ونيابياً القادرين على إحداث التحوّل المأمول وإعادة صياغة المستقبل وتحقق رؤية كويت جديدة، مدفوعين بالتوافق المجتمعي على قدرة الحكومة والمجلس الحاليين وجديتهما الواضحة في العمل على تصحيح المسار، لكن الخروج من النفق المظلم يظل مرهوناً بقدرتهما الفعلية على تجاوز مطبات الإلهاء السياسي والالتفات للتنمية.
الخلاصة:
مَنْ لايزال بيننا من الرعيل الأول يُمكنه ببساطة أن يُدرك أن المسافة بين الكويت وجيرانها ليست بعيدة فحسب لجهة التنمية بل حتى بين مركز الكويت السابق «درة الخليج» والحالي تبقى بعيدة وبمسافات واسعة جداً.
الحديث عن التاريخ الكويتي وحكمة رؤى صانعيه الذين شكّلوا في مسيرة البلاد حتى منذ قبل الاستقلال جسراً بشرياً من الريادة الاقتصادية لا يمل، لكنه لم يعُد كافياً دون شحذ الهمم والخطط التنموية المستدامة لإحراز التقدم المستحق، خصوصاً أننا من الدول التي لاتزال تفتخر بماضيها وتتحسّر على حاضرها.
باختصار، المشهد الحالي في الكويت وجميع المؤشرات تؤكد بشهادة جميع الأطراف أن الخروج من المأزق الاقتصادي الذي نعيشه بمعاناته مالياً واقتصادياً يتطلب الاشتعال ذاتياً بوقود يربط الاستلهام من تاريخ الكويت المشرق والتخلص من عقدة الخلافات الموثوقة بحبال السياسة وليس الاقتصاد.
ربما لا يُعد مجافاة للحقيقة القول إن التفرّغ حكومياً ونيابياً وشعبياً وكل ذي صلة في دفع البلاد وبكل قوة إلى الأمام لم يعد رفاهية فكرية، فوصل مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة بماضينا المضيء والملهم للجميع بات مسألة حياة وموت.
لأننا وبدون تحرك كل القوى في البلاد لاستعادة درة الخليج بأفعال وليس بأقوال للاستهلاك السياسي والإعلامي سنستمر في الوقوف موقف المتفرّج الغارق في تاريخه المتحسّر على واقعه.