تقابلت مع أحد الإسلاميين الذين اعتقلوا في بلد عربي أعواماً طوالاً، وذكر لي أنه ظلّ في زنزانته أعواماً لا يغادرها هو ومن معه لا يفعلون شيئاً غير الصلاة والصيام وقراءة القرآن.
وفي يوم من الأيام وبينما هو جالس يجتر أحزانه فوجئ بكراسة ملقاة بجانبه، فدفعه الفضول لتصفحها فكانت المفاجأة التي شلت أركانه، إذ وجد اسمه واسم كل من معه في الكراسة إلا واحداً، وأمام كل اسم ملحوظات عن صلاته وكيف أنه يكثر الصلاة والصيام، وأنه يدعو على من ظلمه، وأنه يقرأ القرآن كثيراًَ ويصوم كثيراً، حتى القصص والحواديت الطريفة التي يقطع بها المعتقلون الوقت للترفيه وغير ذلك، فاجتمع حوله من معه في الزنزانة واكتشفوا أن أحدهم كان يقدم هذه التقارير لإدارة السجن، فسألوه: لم تفعل هذا؟ فقال لهم بأعلى صوته: مصلحتي ومن سيتكلم هاحبسه.
فسكتوا، وهم يضحكون في سرهم ويقولون ما إحنا محبوسين! وختم قصته قائلاً: هل توجد بعد ذلك خيانة؟ فقلت له الموقف محزن، وهو ابتلاء، والخيانة عموماً سلاح شيطاني رهيب... وبسبب ضياع الإيمان والحرص على الدنيا انتشرت خيانة القيم والمبادئ، خصوصاً في الذين يتصدرون العمل العام من الأحزاب والسياسيين والإعلاميين والمثقفين.
ولكن بالطبع ظهور هذا المصطلح داخل الإسلاميين شاذ ومنفر، خصوصاً في ما اصطلح على تسميته بالحركة الإسلامية التي هي مجموع الجماعات والدعاة والأفراد النشطين في العمل الإسلامي، وهؤلاء المفروض فيهم أنهم يعملون مخلصين لله احتسبوا حياتهم من أجل العمل للإسلام العظيم، ويعلمون أن الجنة حُفت بالمكاره فيتحملون من أجل ذلك جميع المتاعب... وقد تميز عموم الدعاة في ذلك وسطر التاريخ جهادهم من أجل العمل للإسلام بأحرف من نور.
ولكن وكما يقال شتان بين قوم موتى تحيا القلوب بذكرهم وقوم أحياء تموت القلوب بذكرهم... فقد عرفت الحركة الإسلامية ما اصطلح على تسميتهم بالخونة في الحركة الإسلامية، وهم والحمد لله قلة قليلة جداً خانت المبادئ والقيم والفكر الإسلامي الرشيد... والحركة الإسلامية ليست ملائكية ولكن المنافقين أو الخونة وجدوا لهم طريقاً داخلها بسبب ظروف كثيرة ساعدتهم، ومنهم من يظهر بمظهر المغالي في الفكر والعمل ومنهم من يظهر بمظهر المتساهل، وذلك حسب المكان والزمان وهدفه.
البعض يتحدث عن الخيانة التي حدثت من أفراد لجماعات إسلامية مثل «الإخوان» و«السلفيين» وحتى التنظيمات الجهادية. ولكل جماعة ملف بمن تسميهم الخونة الذين خرجوا منها وانقلبوا على أفكارها وجماعتهم وتسببوا لها في مظالم ومشاكل كثيرة... وهناك فرق بين الخلاف في الرأي والخيانة.
ولكنني أقصد هنا عموماًَ خيانة المبادئ والقيم، فالإسلام لم يفرض على المسلم الانضمام إلى جماعة معينة، ولكن فرض عليه الأمانة والصدق. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان». العلماء يقولون إن هذا يسمى النفاق العملي، وقد كثر وانتشر بصورة رهيبة في زماننا هذا، سواء على مستوى السياسيين أو عامة الناس. ولكن مصيبته أن يكون في أهل الثقة المؤتمنين على الدعوة. والأمثلة كثيرة، فمنهم من يتحدث عن أعداء الإسلام وكفرهم بالله ومؤامراتهم على الإسلام، وهو لا يتأخر عن دعوة لهم في سفارة أو في مؤتمر، بمقابل مالي، ومنهم من يدعي معارضة الظلم والاستبداد، وهو في حقيقة أفعاله مجرد تابع للظالمين يلحس نعالهم من أجل ظهوره ومصلحته فقط، ومنهم من يتخذ الدعوة مطية لتحقيق مصالحه الشخصية، فتجده يصرخ في الناس يحثهم على الإنفاق في سبيل الله والصدقة على المحتاجين والزهد، وهو يرتع من أموال المسلمين في الترف ويكنز الأموال، ومنهم من يتحدث عن اللحية والسواك، وهو خير، لكنه يتغافل عمداً عن الفرض الواجب ألا وهو الحديث عن عظمة الشريعة الإسلامية وحرمة دماء وأعراض المسلمين في البلاد المحتلة فلسطين وأفغانستان والعراق.
...ومع التطور التقني أصبحت مادة الإسلام سلعة إعلامية فدخل على الخط نفر من المرتزقة لم يكونوا أبداً من أبناء تلك الحركة، ولكن لبسوا ملابسها وتباروا في لحن القول كي يشاركوا في خداع الجماهير.
وقد استغل نفر من تلك الشرذمة المختلفة وسائل الإعلام في تمرير خيانتهم بأشكال وطرق ملتوية براقة، كأنهم يخادعون الله وسبحانه يعلم سرهم وجهرهم. والمصيبة العظمى أن بعضهم يدعي البطولة زيفاً، وقد أغلق أذنيه أن يسمع قول الله تعالى «كبر مقتاً أن تقولوا ما لا تفعلون»، وهو لا يستحي أبداً. ولأن الخيانة عمل كريه جداً، فقد كرههم الله وقال في مواضع كثيرة في القرآن «إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيما» سورة النساء، آية 107. وقال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ»، سورة الحج، آية 38. وقال سبحانه وتعالى أيضاً: «إٍنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ»، سورة الأنفال، آية 58. والخيانة دائماً لها آثارها السلبية، لذلك حذر الله منها في كتابه الكريم في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»، سورة الأنفال، آية 27.
ويبقى أن قصة المعتقل والخيانة متكررة بأشكال مختلفة مع الكثيرين في السجن الكبير الدنيا. وأخيراً البعض يذكر أسباباً كثيرة لتأخر الحركة الإسلامية وفشلها أحياناً، ولكن يغيب عنهم أن يذكروا أن خيانة المبادئ والقيم والأمانة من أكبر أسباب التأخر.
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب مصري
[email protected]