وسط بداية تشكل المشهد السياسي في الكويت وقبيل الاجتماع التنسيقي الثاني الذي عُقِد في مجلس الأمة بحضور 47 نائباً، رسموا خريطة طريق تشريعية لمجلس 2023 في دور انعقاده الأول، عبر إصدار 49 نائباً بیاناً مشتركاً، طالعتنا جريدة «الراي» بخبر في عددها الصادر الثلاثاء الماضي تحت عنوان («بي إن بي باريبا»... يخطط للانسحاب من الكويت).
ومع تحديد الـ49 نائباً لـ 4 قوانين واجبة الإقرار، وهي المفوضية العليا للانتخابات، وتعديل قانون المحكمة الدستورية، وإنشاء المدن الإسكانية، وإضافة ربات البيوت إلى «عافية» بدا واضحاً أن الوضع الاقتصادي المأزوم للبلاد لم يبرز ضمن فقه أولويات النواب حتى الآن رغم مخاطر الحالة الاقتصادية والمالية الحالية.
فبقراءة عملية لخبر انسحاب البنك الفرنسي من السوق المحلي يفترض أن يكون وقعه مختلفاً على السلطتين التنفيذية والتشريعية وأن يشكل لهما جرس إنذار لأكثر من سبب.
فمن ناحية، يخشى أن تمثل هذه الخطوة بداية لسلسلة انسحابات لبنوك وشركات أجنبية من الكويت، فضلاً على ذلك أنه بينما يخطط البنك الفرنسي العالمي للخروج من الكويت نسمع بين الفينة والأخرى عن شركات عالمية تعلن دخولها أسواق الخليج وفي مقدمتها السعودية.
وهنا يكون السؤال مستحقاً لماذا سيترك «بي أن بي باريبا» الكويت وهل سيهجر الكويت من أجل التموضع في السوق المجاور؟ بجردة بسيطة للبيانات المالية والاقتصادية المحلية بالسنوات الأخيرة يمكن ملاحظة تزايد ضبابية المشهد الاقتصادي في الكويت يوماً تلو الآخر، تارة بسبب التصدع السياسي بين السلطتين وأخرى بسبب تباطؤ مشاريع التنمية وضعف الإنفاق الرأسمالي، ويكفي الإشارة إلى أن حصة الصرف الاستثماري في ميزانية السنة المالية الحالية تبلغ نحو 2.5 مليار دينار من إجمالي مصروفات مقدرة عن هذه السنة بنحو 26.3 مليار دينار.
وسط هذا الحالة المالية المتراجعة يكون منطقياً عدم اعتماد نظرة المستثمر سواء الأجنبي أو المحلي على العواطف واستنادها إلى الأرقام التي لا تكذب أو تتجمل.
فلا يخفى على أحد التعقيدات المالية التي يواجهها مجتمع الأعمال بالسوق الكويتي سواء من الشركات العالمية أو المحلية وأبرزها تأخر طرح مشاريع التنمية، وحتى المقررة منها والمرساة بالفعل لا يزال بعضها محبوساً في الأدراج دون سبب مقنع.
وأمام ذلك، يقع أصحاب الأعمال من الشركات الكبرى تحت ضغط مسؤولية المحاسبة أمام المساهم الذي يفترض أن يحصل على أرباح سنوية، ومقابل ضعف البيئة التشغيلية يصعب تحقيق هذا المستهدف وإذا تحقق يكون متواضعاً ولا يلبي الطموح.
وما يزيد خطورة انسحاب «بي إن بي باريبا» من الكويت أنه وبعيداً عن أسباب هذا القرار الحقيقية تشكل الخطوة اعتبار ضغط إضافي على سمعة السوق المحلي، ما يعاكس كل الجهود المبذولة في زيادة استقطابات رؤوس الأموال الأجنبية في خطوة تستهدف تنويع الاقتصاد وزيادة الخبرات.
خروج «بي إن بي باريبا» يستحق التدقيق لمعرفة الأسباب الرئيسية التي تدفع المستثمرين لهجرة الكويت، أخذاً بالاعتبار أن الفترة الأخيرة شهدت إعلانات عدة من شركات محلية كبرى التوسع في أسواق مجاورة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
وأمام هذا الواقع يتعين على النواب وأعضاء الحكومة المقبلة تشكيل لجنة طوارئ متخصصة لدراسة ما ينقص بيئة الأعمال المحلية، وما يمكن فعله لجذب المستثمرين الأجانب والمحليين في الأسواق المجاورة.
فمن دون ذلك سيكون المشهد الاقتصادي مستقبلاً أكثر ارتباكاً وسيكون على المعنيين البداية من المربع الأول في استقطاب المستثمرين من جديد، لا سيما أن من تداعيات هذا الوضع الخطير التعرض لتقلبات سوقية كبيرة، وتباطؤ بالنمو الاقتصادي ومن ثم زيادة البطالة وتراجع الإنتاج وتراجع الاستثمار، والأعمال التجارية.
الخلاصة:
لا أحد ينكر الجهود المبذولة في السنوات الماضية لتحسين بيئة الأعمال من الجهات المعنية ولتطوير الإجراءات، وفي مقدمتها هيئة تشجيع الاستثمار المباشر، لكن كل هذه الجهود لن تكون مفيدة ما لم يقابل ذلك انفتاح اقتصادي حقيقي مدروس يستقطب ولا ينفر المستثمرين.
وهذا يحتاج لخطة تنمية حقيقية مدعومة برؤية جادة غنية بخطط التنمية المستدامة التي تضمن تدفق رؤوس الأموال العطشة للمشاريع الكبرى الحقيقية.
وإذا تحقق ذلك سيكون القطاع الخاص سواءً الأجنبي أو المحلي حريصاً على البقاء في السوق الكويتي ليفيد ويستفيد من الأعمال، أما بقاء الحال على ما هو عليه فلن يتوقف تطور الأزمة عند خروج «بي إن بي باريبا» بل يخشى أن تكر سبحة المستثمرين، خصوصاً الذين يبحثون عن فرص بديلة خارج السوق المنغلق، ووقتها لا يمكن أن نلومهم على قرارهم الاستثماري.