«فرصة» أميركا بالعودة إلى الاتفاق النووي... لن تبقى طويلاً على الطاولة الإيرانية
عاد الكلامُ عن الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران إلى التداول، ما أضفى عليه صبغةَ «الثرثرة» وليس أكثر، نظراً لأن المسألة تم تَداوُلها منذ أن خرجتْ أميركا من الاتفاق بخطوةٍ آحادية عام 2018 ومن دون إحراز أي تقدم جدي منذ ذلك الحين.
ويَعتمد الاتفاق على أميركا بالدرجة الأولى التي عليها تقديم الضمانات اللازمة لرفْع جميع العقوبات والإفراج عن الأموال الإيرانية المجمَّدة وإعطاء طهران الفترة التي تحتاجها للتحقق من تنفيذ أي اتفاقٍ لأنها لن تُلدغ من الجحر مرتين.
وتصرّح واشنطن بأنها لن تسمح لإيران بصنع القنبلة النووية التي لا تريد «الجمهورية الإسلامية» صناعتها حتى ولو أنها بلغت المعرفة اللازمة لذلك. وهي تملك الماء الثقيل وعشرات الالاف من أجهزة التخصيب المتطورة واليورانيوم النقي بنسبة 60 في المئة (تحتاج القنبلة إلى 90 في المئة).
وبالتالي فإن طهران تستطيع صنع قنابل نووية عدة دفعة واحدة إذا كان هذا هدفها لأنها تملك جميع المواد والعلم المناسب لذلك.
لكن ما الذي أعاد الحماسة إلى الإدارة الأميركية الآن؟
لا يمكن فصل التقارب العربي - الإيراني وعودة العلاقات الديبلوماسية السعودية - الإيرانية إلى مسارها السابق عما يحصل في العالم من صراع الجبابرة الأميركي والروسي حول إزالة الأحادية التي لم تَعُدْ مُهيمنة دولياً.
ولا يمكن فصل إعلان إيران امتلاكها لصواريخ فرط صوتية تصل إلى 15 ماخ (سرعة الصوت) عن «الثرثرة» الأميركية حول إمكان العودة إلى الاتفاق النووي الذي أصيب بموتٍ سريري منذ أن أعلن الرئيس دونالد ترامب تمزيقه.
فلا يوجد رئيس أميركي يبرّر لساسته إعادة أموال إيران المجمَّدة وإعطاء الفرصة لدول الغرب العودة اليها، فيما واشنطن دخلت في الحرب على روسيا لكسر جسر التعاون التجاري والتكنولوجي الروسي - الأوروبي - الصيني ليعيد «العم سام» سيطرته على القارة الاوروبية.
ولا يمكن في هذا السياق أيضاً، تَجاهُل الموقف الشرق أوسطي للدول الغنية بالنفط والناهضة اقتصادياً بقرارها بالمحافظة على سعر النفط والعمل على عدم تدهور أسعاره وأيضاً بالانفتاح على روسيا والصين (من دون التخلي عن أميركا)، ولا المحاولة الأميركية بالعودة الخجولة إلى الشرق الأوسط لتصحيح مواقف الرئيس جو بايدن وقراره، منذ تسلم السلطة، بمعاقبة هذه الدول والابتعاد عنها.
وقد حضر وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة، ليتلقى أفضل المواقف العلنية من القادة العرب، ولكن الصارمة والمصمِّمة على سياسة عدم الإقصاء وحضن سورية والقضية الفلسطينية والعمل على تحصين القرار العربي والتقارب مع إيران والابتعاد عن التطبيع مع إسرائيل، الذي انتفتْ فائدته.
ويجب الأخذ في الاعتبار ان صمودَ روسيا - في حربها في أوكرانيا أمام 50 دولة تضع جميع إمكاناتها الاقتصادية والحربية (من دون إرسال الالوية) من دون أن يتهاوى اقتصادها بل تَضَرَّرَ الاقتصاد الغربي - أطلق العنان لبدء سقوط الإمبراطورية الأميركية من دون أن تحل دولة أخرى مكانها.
بل ان الدول تحاول تنظيم نفسها بإعطاء الأولوية للتجارة والصناعة وبناء البنية التحتية والتبادل بالعملات المحلية جزئياً، بعيداً عن الهيمنة الأميركية التي قادت العالم بالعصا والحروب والتهديدات وإسقاط الأنظمة.
هذه العوامل دفعتْ أميركا إلى إعادة النظر بعلاقتها مع إيران التي تسعى فقط لاستعادة أموالها المجمَّدة والمقدرة بأقل من 180 مليار دولار ورفْع العقوبات عنها لتعود بقوة إلى الأسواق العالمية.
فإيران غير مهتمة بالعلاقات مع أميركا إلا من أبواب التجارة والتبادل التجاري لا أكثر ولا أقلّ. وهي تريد العودة إلى الاتفاق النووي وليس أي اتفاق بديل موقت.
وتقول طهران للوسطاء العُمانيين والقطريين إنها مستعدة للعودة إلى إنتاج 3.67 في المئة من اليورانيوم المخضب والتخلي عن إنتاج 60 في المئة الذي بلغتْه، ما عدا لزوم الأبحاث الطبية الإشعاعية والطاقة والصيدلة الإشعاعية والأبحاث العلمية والزراعة والصناعة النووية المختلفة.
وقد أنتجت إيران كمية كبيرة من الماء الثقيل تجاوزت الـ20 ألف طن (الاتفاق النووي يسمح لإيران بالاحتفاظ بـ130 طناً فقط)، وقد أعربت أميركا عن رغبتها بشرائه، كما أكد الناطق الرسمي باسم الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي.
بالإضافة إلى ذلك، اكتُشفتْ في إيران حقول ليثيوم تحتوي على 8.5 مليون طن في محافظة همدان غرب طهران ما وضعها في مرتبة ثاني أكبر موقع في العالم بعد تشيلي (9.2 مليون طن).
وهذا من شأنه أن يجعلها في موقع جذْب الدول الصناعية الكبرى وتالياً القضاء على مفعول العقوبات الغربية على المدى الطويل.
ويُعتبر الليثيوم «الذهب الأبيض» لأهميته في إنتاج البطاريات والسيارات الكهربائية (التي تريدها أوروبا بشدّة) والطائرات من دون طيار وأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة والألواح الشمسية وتخزين الطاقة والصناعات الدفاعية.
وهذا سيضع إيران في موقع مهم حتى للدول الكبرى مثل أميركا وروسيا والصين والقارة الأوروبية وغيرها.
أما الكلام عن العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي فهو ليس بجديد، بل يتجدد كل فترة من الزمن لتقول واشنطن إنها ما زالت مهتمة ولا تريد لإيران صناعة القنبلة النووية.
إلا ان طهران مهتمة اليوم بأن اقتصادها بحاجة للتنفّس والانفتاح على الأسواق العالمية بشكل أكبر حتى ولو أقامت إيران علاقات مميزة مع الجزء الجنوبي من القارة العالمية (آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية).
ومن الصعب قبول أميركا وإسرائيل، بعودة إيران إلى الساحة الدولية واستعادة أموالها ومكانتها في أسواق الطاقة وفتْح أسواقها على المستثمرين الأوروبيين الذين غادروها على عَجل خوفاً من العقوبات الأميركية.
فقد استطاعت إيران فرض «معادلة الردع» وهي تنوء تحت أقصى العقوبات، وأوجدت مناطقَ نفوذٍ قوية وحلفاءَ يقفون في وجه السياسية الأميركية ويعادون إسرائيل.
وما يخشاه أعداء طهران هو نفوذها الذي سيقوى أكثر إذا استعادت كامل عافيتها، ولذلك فإن العودة إلى الاتفاق النووي والالتزام الكامل به غير منطقي في حسابات واشنطن وتل أبيب.
وبالتالي، إذا استمرّت أميركا على مراوغتها منذ عام 2018 ولم تتعامل بجدية مع اتفاقٍ وقّعتْه دول عظمى (أميركا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، روسيا والصين) ولم تلتزم به، فإن تدهور الإمبراطورية الأميركية، والعامل الزمني وإمكانات إيران الطبيعية من معادن ثمينة وطاقة ومنتجات تصدّرها للعالم سيدفع إيران للابتعاد أكثر عن الغرب الذي أثبت نكثه لعهوده، فيما تَبَيَّنَتْ عدم فاعلية سلاح العقوبات على المدى البعيد.
وتالياً فإن من مصلحة أميركا أن تعود إلى طاولة المفاوضات - رغم ضآلة هذه الفرضية - وإلا فإن الفرصة الآنية لن تبقى طويلاً على الطاولة الإيرانية.