لقد دأبت الأمم الوثنية قبل بزوغ فجر الإسلام على صناعة الأصنام والأوثان بأشكال وأحجام مختلفة ومهام متعددة، وكان من جهلهم وحمقهم أن ألبسوا تلك الأصنام لبوس القداسة فجعلوها آلهة تُعبد من دون الله، تأمرهم فيطيعون وتنهاهم فينتهون!
ومن المفارقات المضحكة المبكية أن تلك الأصنام كانت صناعةً بشرية صرفة، ولم يكن الصنم شيئاً مذكوراً وإلهاً متبعاً معبودا لولا أن من صنعوه بأيديهم ونحتوه وزخرفوه وزينوه، ثم انتقلوا من مرحلة صناعته إلى مرحلة تقديسه وتعظيمه وإضفاء الهالة عليه، ثم بعد ذلك أخرجوه إلى الأمة البائسة كي تقدسه وتسبح بحمده وله تصلي وتسجد!
ولقد استخدم الأنبياء (عليهم السلام) لغة العقل والمنطق والحجة لتبيان مدى الضلال والتيه الذي عاش به الوثنيون فقد قال إبراهيم (عليه السلام) منبهاً تلك العقول الغافلة وزاجراً لها عن الجرم الذي اقترفته بحق نفسها (قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون)، فهل هناك شخص عاقل يقدس ويعبد شيئاً من صنع يديه؟ وما الدافع لسجود الإنسان لشيء صنعه بنفسه؟ وأي عقل ومنطق يسمح بفعل هذا الأمر؟
ومع أن صناعة الأصنام قد تلاشت بعد ظهور رسالة الإسلام التي حطمت أغلال العقول وهدمت الأصنام بمعاول الإيمان والحقل والمنطق، حتى أصبحت هذه الأصنام ومن يعبدها صفحة من صفحات الجاهلية الأولى، إلا أن المشهد السياسي في الكويت، وأسلوب التعاطي الذي نراه بين بعض الناخبين ونواب البرلمان وبين الشعوب في منطقتنا العربية وكثير من حكامها، جعل المتابع الحصيف لذلك المشهد يجزم بأن مهنة صناعة الأصنام قد عادت لتزدهر من جديد لا من ناحية الشكل التي كانت عليه، ولكن من ناحية المضمون! فعوضاً عن تقديس أوثان وأصنام الصالحين من الأموات المصنوعة بأيدي الذين عبدوها في الجاهلية الأولى، صار التقديس والتبجيل لبعض الساسة والنواب ممن وصلوا إلى سدة البرلمان، فهؤلاء قدستهم فئات من الناخبين ومن كان لهم الفضل بوصولهم، كما قدس الأصنام من كان له الفضل بصناعتها ووجودها!
لقد اختفت مظاهر العبادة الدينية لتلك الأنصاب والأزلام والتماثيل في الجاهلية الأولى، وحل محلها ما نستطيع أن نسميه الوثنية السياسية التي تقوم على أساس صناعة الأصنام السياسية وتعظيمها وتقديسها، حتى أنه صار يطلق على الأصنام الأحياء صفات خرافية خارقة من قبيل «القائد الملهم»، و«العبقري الفذ»، و«الزعيم الأوحد»، حتى أن بعضهم وضع لنفسه أو وضع له مناصروه ألقاباً ما أنزل الله بها من سلطان.
ولعل المصيبة تكبر حينما يمارس بعض كتّابنا ومثقفينا هذا الدور الممجوج تغييب الوعي وإلباس بعض الساسة والنواب والوزراء لبوس القداسة والفخامة والعظمة... كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
إن الواجب على المثقفين والقوى السياسية ووسائل الإعلام أن يدركوا أن دورهم الأهم هو العمل على انتشال الشعوب من براثن الوثنية السياسية الجديدة وتقديس الأشخاص، وأن الواجب عليهم الإسهام بنشر الوعي من خلال نشر قيم العدل والمساواة والحرية وأن الناس أكفاء، ومن خلال تقديم المصلحة العامة على المصالح الفئوية الضيقة، ومن خلال المساهمة بشكل مباشر وفعال بتنشئة جيل يعي خيوط اللعبة، ويبتعد عن عبارات التقديس والتمجيد والتفخيم، ويبتعد عن صناعة الأصنام السياسية! فالجماهير حينما يغيب عنها التوجيه فإنها غالباً ما تصنع قائداً «مقدساً»، وهذا القائد يصنع عبيداً بلا رأي أو خيار... وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فهيد الهيلم
كاتب كويتي
[email protected]