مشاهدات
لا تقصص رُؤياك
يعتبر الحسد والعين من آفات النفس الإنسانيّة، حيث يشتركان في كونهما سلوكين خاطئين حرّمتهما الشرائع السماويّة لما لهما من آثار سيئة، وأضرار وخيمة على الفرد والمجتمع، وهما تعبيرٌ عن تطلعات النفس الخبيثة وطمعها في زوال النعمة عن أصحابها.
هذه الآفة التي تردّد ذِكرها في القرآن الكريم بدءاً من حسد إبليس اللعين لسيدنا آدم عليه السلام والتي بسببها لعن إبليس إلى يوم الدين.
قال تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً».
عندها أعلن إبليس هدفه وهو الانتقام والثأر من آدم وذريته. فالقصة كانت بدايتها حسد وكبرياء – فكل ما يجري تكون بدايته حسد ثم يتحول هذا الحسد إلى حب الانتقام والثأر، لهذا قال إبليس مخاطباً الله عزّ وجلّ بما معناه: أرأيت هذا الذي كرّمته وفضّلته عليّ [آدم] لاحتنكن ذريته، وصولاً إلى حسد قابيل أحد ابناء آدم أخاه هابيل والذي قام بقتله فأصبح من الخاسرين النادمين.
وأولاد يعقوب مع أخيهم يوسف، أما نتائج هذا الحسد فلا تخفى على أحد حيث أدى الحسد هنا إلى التجرؤ إلى محاولة قتل نبي الله يوسف، عليه السلام، والذي لم يتم بسبب رفض بعض أُخوة يوسف لعملية القتل وإلقائه في البئر بدلاً من ذلك وما تبع ذلك من الكذب والافتراء...
وليس عجباً أن نسمع في أحد الأحاديث الشريفة أن آفة العلماء الحسد، وقد وصفت الآية الكريمة الحسد بـ (الشر) ومن شر حاسد إذا حسد.
ولو تأملت قليلاً لوجدت أن الحسد، هذه الآفة الخطيرة ينضوي تحتها الكثير من الآفات، فالحسود سرعان ما يتحول إلى ناقم وحاقد وأناني...
«يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».
قال يعقوب عليه السلام لابنه يوسف: يا بني، لا تذكر رؤياك لإخوتك، كي يفهموها، ويحسدوك ويدبروا لك مكيدة حسداً منهم، إن الشيطان للإنسان عدو مبين.
«يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ».
ومن خوف النبي يعقوب عليه السلام من العين الحاسدة قال لأبنائه:
يا أبنائي لا تدخلوا مِن باب واحد، ولكن ادخلوا من أبواب متفرقة، حتى لا يصيبكم الناس بالحسد، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم فإن العين حق، وإني إذ أوصيكم بهذا لا أدفع عنكم شيئاً قضاه الله عليكم، فما الحكم إلا لله وحده، عليه اعتمدت ووثقت، وعليه وحده يعتمد المؤمنون.
(اقضوا حوائجكم بالكتمان)
ولا تكن كتاباً مفتوحاً متاحاً لكل أحد... اخفِ بعض أسرارك واكتم النعمة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً فالنفوس ليست واحدة، ولا توقد النيران حولك، ولا تقصص رؤيتك على إخوتك، أي اطفأ نار الحاسدين بإخفاء مميزاتك عنهم لأن هناك نفوساً ضعيفة تتقد نار الحسد فيها إذا ما رأوا نعمة على أحدهم، وقد تتيقظ لدى الأقربين ومن تربطك بهم علاقة أكثر من غيرهم، ولكل نعمة حاسد كبرت أو صغرت... وليس للمحسود شيء أسلم من إخفاء نعمته، النفس البشرية تضعف وربما يدخلها الحقد والحسد فلا تقصص محاسنك على الكل.
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد ضرب من ضروب التطوّر، ولم يعد استخدامها حكراً على المختصّين أو المهتمين في شأنها.
فمن الأبواب الواسعة والمشرعة دخلت وسائل التواصل الاجتماعي عالمنا، ودون إذن مسبق غزت بيوتنا وعقولنا وقلوبنا دون أن نفكر أو نقرر حتى أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، لا نتخيل مرور لحظات حياتنا دون استخدامها، بل قد يصيبنا الهلع لمجرد التفكير في عدم وجودها.
ومع انتشار مجالات استخدام وسائل التواصل بين الناس، العامة والخاصة صغاراً وكباراً بدأ التأثير معها بارزاً في ملامح شخصياتنا، وخاصة الأجيال الصاعدة، مع أهمية هذه الوسائل في تسهيل عملية التواصل بيننا وسرعة الحصول على المعرفة، وتلاقي الحضارات وغيرها...
وفي الجانب الآخر بدأت تلوح في الأفق ظواهر اجتماعية وأخلاقية خطيرة تعكس سوء استثمار هذه الوسائل.
وسنخصّص في موضوعنا اليوم الحديث حول ظاهرة انتهاك الخصوصية الذاتية، والتعدي على خصوصية الآخرين، من خلال سوء استخدام العديد من وسائل التواصل، والتي للأسف تمارسها الغالبيّة عن حسن نية، غير واعين لأثرها السلبي والمسيء في آن واحد.
وذلك عبر تداول ما هو خاصّ من الصّور والأخبار، لتصبح في متناول الجميع، لنجد البعض يعرض صوراً لعائلته ونزهاته واحتفالاته...، ويتباهى آخر بنشر صور لمشترياته، وطعامه، ومقتنياته، وقد لا نستغرب أن يصل الحد عند آخرين بنشر مشكلاتهم وخلافاتهم العائلية، على وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن باب أخذ العِظة والاعتبار نذكر هذه القصة والتي هي من واقع الحال وليست من الخيال وحدثت في إحدى الأسر الكويتية، ففي حفل الزواج تم تصوير العروس في صالون التجميل من المقربين من الأهل وتم تداول ونشر تلك الصور في وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت من تداعياتها الخلاف والتطاول والمشاجرة بين أسرة العروس، وبدلاً من الفرح والبهجة تبدلت الحال إلى الخلاف والقطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة ولا تزال تبعياتها مستمرة للأسف، وبسبب الخلاف والمشاجرة بين الأبناء تأثرت الأم نفسياً وصحياً وهي تشاهد خلافات الأبناء.
والنتيجة:
لا حرمة لما كان يعرف بخصوصية العائلة وشؤونها الداخلية، حيث أصبح بإمكان الأصدقاء وأحياناً الغرباء الوقوف على تفاصيل دقيقة في حياة هؤلاء الناس.
تنمية الحسد والغيرة بين الإخوة والأصدقاء والغرباء.
السعي لتقليد الآخرين الذين نعتقد أن حياتهم أفضل من حياتنا لما نراه على وسائل التواصل، علماً أن ذلك قد يكون مجرد وهم لا أساس له من الصحة.
تنمية آفة التكبر والغرور من خلال نشر ما يميزنا من مراكز وجاه وممتلكات...
هدر الوقت وإضاعته في متابعة ما ينشر في وسائل التواصل بدلاً من العمل الصالح والمفيد.
الانشغال بشؤون الآخرين ومراقبة حياتهم، بدلاً من الاهتمام بالشؤون الأسرية والحياتية الخاصة.
خلق مشكلات جديدة نتيجة خرق السرية والتداخل بين الأقرباء والأصدقاء، والسماح للآخرين باقتحام حياتنا الخاصة.
ما ذكر أعلاه قد يكون أقل بكثير مما يمكن وصفه، حول حجم المشكلة، وتفاقمها، وإذا كنا نريد حقاً أن نغير عاداتنا في التعامل مع وسائل التواصل، فعلينا بنشر الوعي بين الأفراد ولنّحسن القوانين التي توجب احترام الخصوصيات، ونجعل من هذه الظاهرة مصدراً للدراسة الجدية، فنسلط المجهر حول نتائجها فلعله بذلك يكون رادعاً للآخرين، واتقوا الله في أنفسكم وفي الآخرين.
ختاماً:
الحافظ أولاً وأخيراً هو الله الذي نسأله أن يحفظنا وإياكم من شر ما خلق، ومن شر النفاثات في العُقد ومن شر حاسدٍ إذا حسد.
إن يحسدوك على عُلاك فإنما
متسافل الدرجات يحسد من علا
اللهمّ احفظ الكويت آمنة مطمئنة، والحمد لله رب العالمين.