حربٌ لا بد منها لجنرالَيْ السودان... الانقلاب الجديد
لم تنجح محاولاتُ وقف القتال بين القائدين العسكريين... قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ورئيس المجلس السياسي (أعلى منصب في البلاد بحُكْمِ غياب رئيس أو رئيس وزراء مدني) ونائبه في المجلس السيادي وقائد قوة التدخل السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي - أي محمد الصغير).
وانهارت اتفاقاتُ وقف إطلاق النار سريعاً لأن ما يجري «معركة مصير» بالنسبة إلى الطرفين وبقائهما. ولذلك لا يمكن لأي اتفاق - مهما كانت أطرافه قوية - داخلية أو خارجية - أن يصمد طويلاً ولن يكون أكثر من هدنة عابرة لإعطاء المدنيين والأجانب الفرصة للبحث عن أمكنة أقل سخونة وكذلك تقديم الفرصة للمتحاربين لدعم قواتهم وإعادة توزيعها واستلام الأسلحة والذخائر من الخارج للعودة إلى القتال حتى... الرمق الأخير.
من الطبيعي أن يشهد السودان انقلاباً جديداً، وهو البلد الذي خبر انقلابات عدة منذ استقلاله عام 1956.
ففي عام 1958، انقلب الفريق إبراهيم عبود ومجموعة من ضباطه على حكومة ائتلافية بين حزب الأمة والاتحاد الديموقراطي تبعتها ثورة شعبية استمرت أربع سنوات، نفذت بعدها في العام 1969 مجموعة «الضباط الأحرار» انقلاباً بقيادة جعفر النميري. وفي عام 1971، فشل انقلاب قاده الضابط هاشم العطا بعدما استولى على السلطة لمدة يومين ليعيد التدخلُ الخارجي الحكمَ إلى النميري.
وفي عام 1975 لم تنجح محاولة الانقلاب التي قادها الضابط حسن حسين وتبعتها محاولة أخرى فاشلة عام 1976 بقيادة العميد محمد نور سعيد، وبقي النميري في السلطة حتى عام 1985 حين واجه عصياناً مدنياً شاملاً أطاح به، وأعلن الفريق عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب تشكيل مجلس عسكري لمرحلة انتقالية برئاسته وسمح بإجراء انتخابات أتت بالصادق المهدي رئيساً للوزراء.
وفي عام 1989، قاد العميد عمر حسن البشير انقلاباً نجح في إبعاد الصادق المهدي. وفي عام 1990 قاد اللواءان عبدالقادر الكدرو ومحمد عثمان محاولة انقلاب فاشلة تبعتها محاولة أخرى مماثلة عام 1992 بقيادة العقيد أحمد خالد.
وفي عام 2019 أطاح انقلاب الجيش بقيادة وزير الدفاع ونائب الرئيس الفريق أول أحمد عوض بن عوف، بالبشير الذي أودع السجن بعد حُكم دام 30 عاماً. إلا أن بن عوف تنازل عن رئاسة المجلس العسكري الانتقالي واختار المفتش العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح البرهان خلفاً له.
وفي يوليو 2021 فشل رئيس أركان الجيش هاشم عبدالمطلب أحمد في الإطاحة بالبرهان وتبعته محاولة انقلاب أخرى بعد شهرين بقيادة اللواء الركن عبدالباقي الحسن عثمان الذي اعتقل مع معاونيه، قام بعدها البرهان نفسه بانقلاب على رئيس الوزراء حينها عبدالله حمدوك.
وتُبَيِّنُ حركة الانقلابات المتوالية أنها نُفذت على يد ضباط في الجيش يتمتعون بنفوذ وعلاقات قوية داخل المؤسسة العسكرية، وان عدداً لا يُستهان به كانوا من أقرب الداعمين والمختارين لمَن أطيح بهم.
فقد خدم البرهان كقائد للقوات البرية في الجيش في عهد البشير وتشارك مع قائد قوة التدخل السريع حميدتي في معارك معينة ونُسجت بين الرجلين أيام معارك دارفور علاقات وثيقة مع وجودهما في «خندق واحد».
وقد اشترك البرهان الذي شغل آخر منصب له كمفتش عام للجيش مع صديقه وصديق البشير حميدتي في الانقلاب على الرئيس عمر البشير.
وعيّن البرهان نائباً له من القريبين إليه والذي يثق به وهو نفسه الفريق الأول محمد دقلو حميدتي الذي نشأ كتاجر للإبل وتَدَرَّجَ في معارك دارفور ولفت نظر البشير الذي قرّبه منه أكثر.
وتعاظمت قوة حميدتي فأنشأ جيشاً عشائرياً وقَبَلياً قوياً قوامه نحو 50 ألف رجل يتميز بالحركة السريعة والتمركز في قواعد في أمكنة عدة من البلاد، بما فيها العاصمة الخرطوم وقرب القيادة العسكرية المركزية ورئاسة الجمهورية والمطارات المتعددة المنتشرة في السودان.
ونَسَجَ حميدتي علاقاتٍ متينةً مع قادة إقليميين وأفارقة وغربيين وصلت إلى حد لقاءاتٍ قام بها من دون إخطار البرهان حتى مع وفد من «الموساد» الإسرائيلي الذي قدم إلى السودان للقاء قائد قوة التدخل السريع دون مقابلة البرهان.
ولديه مناجم ذهب تدر عليه أكثر من مليار دولار سنوياً وتجارة تهريب العاج وتجارات أخرى مع دول أفريقية مجاورة واستثمارات عدة حوّلته إلى رجل يتمتع بنفوذ كبير في السودان.
وما سرّع الأمور نحو الصدام كان دفْع حميدتي بقواتٍ كبيرة إلى مدن رئيسية وكذلك إلى العاصمة الخرطوم الأسبوع الماضي، ما أثار شكوك القيادة العسكرية التي من المرجح أن تكون أدركت أن في الأمر تحضيراً للانقلاب الذي بدأ فعلاً بمهاجمة قوات حميدتي مواقع الجيش السوداني في مركز الإذاعة والتلفزيون - وهو المكان المفضّل للانقلابيين دائماً كخطوة أولى للإعلان عن بدء العملية – ومراكز المدينة الرياضية في العاصمة الخرطوم.
وتدور الاشتباكاتُ حول ثلاثة مواقع رئيسية داخل الخرطوم، القصر الرئاسي والقيادة المركزية ومطار الخرطوم وهي مناطق حساسة يعتقد الإنقلابيون أنها ترمز إلى قوة الحاكم وسقوطه في حال خسرها.
إلا أن الاشتباكات فاجأتْ المدنيين وحاصرتْهم وضربتْ النظامَ الصحي حيث أقفل أو تعطّل نحو 60 مستشفى تعرّضت فيها أدوية مخزّنة للتلف وللفقدان بسبب انقطاع الكهرباء والمياه ونقص الطاقم الطبي الذي لا يستطيع التنقل نتيجة عدم التزام أي من الطرفين بالهدنة مهما عظمت التدخلات الخارجية.
ومن الطبيعي أن تشهد أي حرب داخلية فرصاً لخروج المدنيين والأجانب المحاصَرين من خلال وقف إطلاق نار أو هدنة. إلا أن الوضع أصبح أكثر وضوحاً فالسودان لا يمكن أن يحتضن الرجلين، وتالياً فإن الإطاحة بأحدهما أو بالإثنين أصبح أمراً لا مفر منه.
وبدأت البلاد تعيش أخبار التدخلات الخارجية من دول مجاورة تعمد إلى دعم هذا فريق أو ذاك، وهو ما يعني أن المعارك ستستمر ولفترة طويلة بين جنرالين يتمتعان بعلاقات إقليمية ودولية جيدة، كما يعني أن الخراب سيعم السودان مع تحوله ساحة لصراعات خارجية يراد منها تصفية الحسابات، تماماً كما حدث ويحدث في حروب إقليمية ودولية أخرى.
لن يستطيع السودان تحمل أعباء الحرب. فهناك سبعة ملايين طفل محرومون من أدنى احتياجات الحياة. وتقول الأمم المتحدة إن هناك 16 مليوناً تحت مستوى خط الفقر يحتاجون للغذاء والدواء من أصل 45 مليون سوداني في بلادٍ يلامس التضخم الشهري نسبة 200 في المئة تتراجع معه القيمة الشرائية ويزداد سعر الخبز عشرة أضعاف.
وكذلك هناك خلافات كبيرة بين دول المنطقة الافريقية التي تجنح نحو تصفية خلافاتها في السودان، تماماً كما لإسرائيل وروسيا وأميركا مواطئ قدمٍ تستطيع من خلالها العمل على إشعال الحرب إذا أرادت أو إذا تدخل طرف ضد مصلحة الآخَر.
ومن غير المعلوم إذا ما عاود حميدتي الكرة في الانقلاب بعد فشله بالسيطرة على الخرطوم في الأيام الأولى، وتالياً فإن جميع الاحتمالات مفتوحة على سيناريوات حرب طويلة تنزلق إلى حرق مدن وشوارع أو قد تشهد هروباً لحميدتي أو ابتعاده عن الحياة السياسية بعد تسوية إقليمية – دولية.
إلى حين ذلك، يتحضر السودان لتمضية عيد الفطر في ظل قرقعة السلاح والحصار المميت على وقع قتال الجنراليْن في حربٍ... كان لا بد منها.