No Script

كلمة صدق

العد العكسي «للتمدد الامبريالي»

تصغير
تكبير

في عام 1992، قبيل تخرجي من جامعة ولاية أريزونا الأميركية، اهداني استاذ مادة التاريخ الأوروبي المعاصر كتاباً قيماً للمؤلف الأكاديمي الجهبذ بول كينيدي، بعنوان «قيام وسقوط القوى العظمى»، أجرى فيه الكاتب دراسة تاريخية مقارنة بالاستدلال بالعوامل التي أدت بامبراطوريات سابقة كاليابانية والاسبانية بالصعود والهبوط، ثم في الفصل الأخير توقع كينيدي أن يكون مصير الولايات المتحدة مثل سابقاتها من الحضارات، أي انها ستبدأ بالهبوط بعد وصولها إلى ذروة علوها.

وقد تعرض المؤلف كينيدي جراء دراسته العميقة والجريئة إلى انتقادات واسعة من بعض الطبقة السياسية والثقافية في أميركا، فقد جاء كتابه في وقت كانت أميركا زعيمة العالم بلا منازع، فقد طردت القوات العراقية الغازية من الكويت وهزمت جيش النظام العراقي السابق شر هزيمة وحققت انتصاراً كبيراً، كما انها خرجت منتصرة من حرب باردة طويلة ضد حلف وارسو، فانتهت حربها الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو الذي يتزعمه. حتى وصل الأمر بداهية السياسة الأميركية هنري كيسنجر، بالقول في كتابه «الديبلوماسية» بأن الولايات المتحدة أصبحت القوة العالمية الأولى بمكان يمكن لقيمها أن تكون القيم السائدة في العالم.

وكان لصامويل هاننغتون، رأي مشابه أبداه في كتابه «من نحن؟» حين قال «ان أميركا تستطيع أن تستوعب العالم تعددياً وتغير في الوقت نفسه تشكيل العالم بقدرتها الامبريالية».

في مقال بعنوان آخر «الحروب» تم نشره في صحيفة «الراي» سبتمر 2010، أشار فيه كاتب السطور الى ما اسماه المؤلف بول كينيدي «التمدد الامبريالي،» ووصف المؤلف هذه الحالة بأن تكون الامبراطورية الأميركية كما أسماها، بحالة شبيهة بالامبراطوريات الآفلة، «حينما تكون التزاماتها ومصالحها أكبر من أن تستوعبها امكاناتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية».

فعلاً، لقد كانت ذروة التمدد الامبريالي في عهد بوش، الأب، بعد سقوط الكتلة الشرقية، ثم بدأت متاهات التوسع الامبريالي عقب الحادي عشر من سبتمر، ومتاهات أفغانستان والعراق والتورط العسكري وما تحملته ميزانية واشنطن من خسائر مادية وبشرية باهظة. حاول دونالد ترامب بعنجهيته المعروفة عكس حركة عقارب الساعة، فتصرف بجلافة مع اصدقاء أميركا وبصفاقة وتعالٍ مع حلفائه الأوروبيين، وكأنه يتخيل أنه ثيودرو روزفلت، الجديد.

وما إن انجلت فترة ترامب إلا وقد خلفت وراءها أميركا مقسمة على نفسها، ورئيساً سابقاً له جمهوره المتعصب لكن الفضائح والمحاكمات والدعاوى تطارده. وفي خارج أميركا تحدى فلاديمير بوتين، توسع الناتو شرقاً بقيادة أميركا وشن هجمة ضد حلفاء أميركا في كييف، وفي الشرق البعيد تواصل الصين تحدي السياسة الأميركية في تايوان ومضيقها الإستراتيجي، وتواصل تذكير تايوان المتمردة عبر التصريحات والمناورات بأنها سوف تعود للوطن الأم رغماً عن واشنطن. وتتحدى الصين التمدد الأميركي الامبريالي عبر تعملقها الاقتصادي وتوسعها في اسطولها البحري الذي أصبح يضم إلى الآن ثلاث حاملات للطائرات.

آخر التحديات لواشنطن هو بدء التململ من سياساتها من قِبل بعض من حلفائها الغربيين، وجاء ذلك على لسان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، عقب زيارته للصين، حين رفض في تصريحه أن تكون أوروبا تابعة لأميركا ومنجرفة لتنفيذ مصالحها التي قد تتعارض مع مصالح أوروبا. ودعا في نزعة ديغولية استقلالية إلى أن تقلل أوروبا اعتمادها على الدولار الأميركي، ورق الدولار هذه الدجاجة التي تطبع أميركا منه بقدر ما تشاء فيصبح البيض ذهباً. تصريح ماكرون الأخير والذي قد يكون برغبة أو خضوعاً للأمر الواقع ممكن اعتباره أحد المؤشرات على بدء التراجع في حالة «التمدد الامبريالي».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي