No Script

نيران السياسة تستزف الوقت والمَفاعيل

المركزي اللبناني «يواظب» على حماية التهدئة النقدية

تصغير
تكبير

تعكف حاكمية مصرف لبنان المركزي على «تحصين» المبادرة الأحدث للتدخل المباشر والمفتوح في أسواق المبادلات النقدية، والتي تم إطلاقها عشية 21 مارس الحالي، ويستمرّ سريانها للأسبوع الثاني على التوالي وتقضي بعرض بيع الدولار النقدي بسعر 90 ألف ليرة، معزَّزَةً باستجابةٍ مصرفية قضتْ بتعليق الإضراب وتولّي دور الوساطة في العمليات اليومية لمصلحة الأفراد والشركات. ويبدو الحرص على حماية «التهدئة» النقدية التي أنتجها هذا التدخل المدعوم بتغطيةٍ حكومية و«سياسية»، مُغايِراً في جديّته ومتانته لِما رافَقَ سلسلةَ تجارب مماثلة أصابها الفشل المشهود مترجَماً بانكفاء البنك المركزي عن مواصلة التدخل، وآخِرها جرت وقائعه اوائل مارس، بعرْض الدولار بسعر 70 ألف ليرة، لينتهي الى «احتجاز» شرائح كبيرة بالليرة من الطلب الإفرادي والتجاري لدى البنوك بسبب تعذُّر مبادلتها عبر منصة صيرفة، فيما سجّل الدولار قفزاتٍ قياسيةً وسريعةً في الأسواق غير النظامية ليناهز سعر 145 الف ليرة، أي أكثر من ضعفيْ سعر المنصة المقتصر تنفيذه على عملياتٍ محدودة.

ولوحظ في هذا السياق، سرعة ردّ البنك المركزي على تسريباتٍ عن تعديلاتٍ وشيكة ستطرأ على مندرجات التعميم الأحدث لبيع الدولار على المنصة، ومبادرته إلى تعميم بيانٍ يدحض ما يتم تداوله عبر بعض وسائل التواصل الاجتماعي كما بعض وسائل الإعلام من «أخبار ملفقة مفادها أنه إبتداءً من اول ابريل المقبل ستكون العمليات عبر منصة صيرفة حكراً على الشركات وليس الأفراد أو أنها ستتوقف» ليؤكد «أن كل هذه الأخبار مركّبة وبعيدة كل البُعد عن الحقيقة، وأن العمليات على المنصة مستمرة كالمعتاد ومرتكزة على المادتين 75 و 83 من قانون النقد والتسليف».

وبالتوازي، رصدتْ «الراي» استمرار التوجس على حدته المرتفعة لدى زبائن البنوك من أفراد وشركات على السواء، بعدما لُدغ الكثير منهم من «خسائر» التجارب السابقة لمحاولة شراء عروض الدولار عبر المنصة. اذ ينص التعميم الخاص على إتاحة المبادلات وتنفيذها بعد ثلاثة أيام عمل، وهو وقت «طويل» بلغة الأسواق في حال استعادة مشهد «الانكفاء» من البنك المركزي، وقد يُفْضي إلى استرجاع السيولة بالليرة «مثخنة» بخسائر ارتفاعاتٍ مفاجئة في سعر الدولار الأسود.

ورغم ما أنتجه التدخل فعلياً من انكفاءٍ ظاهر للمضارباتِ في الأسواق المُوازية واستقرارِ الهوامش السعرية للدولار خارج المنصة خلال أسبوعيْ عمل بين 105 و 110 آلاف ليرة، يُتوقع أن يظل التردد غالباً على تصرفات الراغبين، ولا سيما الأفراد، بشراء الدولار «الرسمي»، وإلى حين الاطمئنان كلياً الى ثبات المركزي على تدخّله. أما الشركات، فلا تجد ضيراً في جبه المخاوف عبر تنفيذ التصريف الفوري لدى شركات الصرافة ولو بسعر أعلى قليلاً، باعتبار أنها تجبي السيولة من مبيعاتها بالسعر الرائج للدولار مضافاً إليه هامش التحوط. كذلك فإن ميزة الفورية تعلو على التصريف المؤجَّل، باعتبار أن الفوارق ضيّقة للغاية بعد احتساب عمولات البنوك الوسيطة التي تراوح بين 3 و5 في المئة من إجمالي العملية، فضلاً عن مخاطر نقل الأموال وتكلفة التنقل وسواها. ويُتَرْجِم حجم العمليات المنفَّذة يومياً هذه المعطيات. فعلى مدار ستة أيام عمل في أسبوعين، بَلَغَ الحجم الإجمالي للمبادلات عبر المنصة نحو 270 مليون دولار، أي بمتوسطٍ حسابي يبلغ 45 مليون دولار يومياً. وهو رقم لا يُقارَن مع المستويات القياسية اليومية التي تمّ تسجيلها بداية السنة قريباً من عتبة 300 مليون دولار.

أما في الخلفيات، فمن البديهي، بحسب مصادر مصرفية متابِعة، أن يثمر التدخل الجديد تهدئةً موقتةً تمنح السلطة التنفيذية الوقت «غير الطويل» لمحاولة الحدّ من الانحرافات الخطرة التي تتحكم بالمشهد النقدي، وأيضاً تحييد الملفات القضائية الخاصة بالقطاع المالي وإخراجها من ميدان «الشعبويات والمزايدات» وتسريع المعالجة المكتملة لمسببات الإضراب العام الذي كانت المصارف استعادتْه اعتراضاً على «التعسّف» الذي يلاحق إداراتها ومؤسساتها من بعض الجهات القضائية.

ومن الثوابت، بحسب تحليل لمصرفي كبير، أن البنك المركزي لا يملك ما يكفي من احتياطاتٍ قابلةٍ للضخّ في أسواق القطع وبما يضمن إطالةً «موقتة» للتهدئة النقدية المستنزَفة بقدر كبير ومشهود في لعبة إطفاء النيران السياسية المتنقّلة من ميدان «التوقيت (الصيفي والشتوي)» إلى ردهات السلطات التنفيذية والتشريعية، والمعزَّزة ايضاً بشللٍ شبه تام في إدارات الدولة ومؤسساتها كافة، وبما يتمدد الى تحصيل واردات الخزينة والرسوم المستحقة.

وفي التوصيف الحقيقي، فإن «الرصيد الدولاري» المستخدَم في التدخل، يُسحب «على المكشوف» من مدخرات الناس المتبقية في المخزون المستهلَك لاحتياط العملات الصعبة الذي انحدر الى عتبة 9 مليارات دولار، فيما يبلغ الاحتياطي الالزامي للودائع القائمة نحو 12 مليار دولار بالحد الأدنى، بينما يعاني المودعون من «إجحاف» كبير في تحصيل الفتات من أموالهم المحتجَزة. وتتماهى هذه المعطيات مع جدليةٍ محورية أوْردها الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود. فهو يسأل، الى أي متى سيتمكّن «المركزي» من الاستمرار في ضخّ الدولار النقدي في السوق، في حين أن كتلة العملة الوطنية ستعاود الانتفاخ لتغطية رواتب ومعاشات القطاع العام، كما أن بعض القطاع الخاص لا يمكنه الاستغناء عن الليرة، وإذا تم توقيف التعامل بالليرة فيخسر حاكم البنك المركزي توقيعه عليها. ويلفت إلى أن حاكم مصرف لبنان واقعٌ بين «السندان» و«المطرقة» حيث لا يستطيع ترْك الساحة في هذه الفوضى، وهو يتمتّع بتاريخٍ كبير بتدخّلاته وتنظيمه لسوق القطع، في حين أن الجوّ العام لا يرحمه ولا يساعده ولا يعترف له بهذا التاريخ، كما أن إمكاناته الحالية أصبحت بسيطة جداً.

ولذا فإن هذه الآلية لا يمكن إلا أن تكون «موقتة»، وما يؤكّد على ذلك بإجماع الجميع، هو أن الحاكم في ذاته «مؤقّت» مع اقتراب موعد انتهاء ولايته بنهاية شهر يوليو المقبل. وفي المقاربة التنفيذية، فإن أي عاقل، وفق حمود، لا يُعلِن أنه يريد أن يجفّف السوق من الليرة التي يطبعها ويدفع بالدولار الأميركي كي يشتريها. فالدولار ليس مِلكه الخاص بل مِلك الغير لأنه لا يوجد احتياطات صافية، فلو كان لديه فائض في ميزان المدفوعات تستطيع عندها البنوك المركزية التدخّل لضخّ عملة أجنبية في السوق، لكنها تعود لتملأها بفائض في ميزان المدفوعات.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي