العراق لا يزال يفتقر للاستقلالية التامة وأميركا تفتقر لإستراتيجة واضحة وبنّاءة
مرّ 20 عاماً على احتلال أميركا للعراق عام 2003 حيث كُتبت التحليلات المتعدّدة والمتنوّعة حول نتائجه الكارثية وكم كلّف أرواحاً وأموالاً وكيف بُني على «كذبة» امتلاك بغداد لأسلحة دمار شامل.
لم يَعترض أحد على إزاحة صدام حسين الذي فتك بأبنائه واحتلّ الكويت وأعلن الحرب على طهران واستخدم أسلحةً كيميائية ضدّ إيران وأكراد العراق تسلّمها من الغرب.
والقسم الأكبر من المآخذ - بعد المرور العابر على الخطأ الفادح لأميركا والدول المتحالفة معها في احتلال دولةٍ من دون العودة إلى الأمم المتحدة - يدور حول انتصار إيران التي استطاعتْ السيطرة، بحسب هؤلاء، على مَفاصل الدولة العراقية.
خرج رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير - الذي دافع بقوة عن احتلال العراق عام 2003 - ليطلب «الغفران» بسبب المعلومات الخاطئة التي دفعت 40 دولة لتدخل العراق تحت الراية الأميركية بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل «بسبب معلومات استخباراتية خاطئة»، بحسب قوله.
واعتقد بلير ان كلمة «SORRY» كافية لتطييب خواطر العائلات العراقية التي قُتل أبناؤها على يد التحالف الغربي. وتالياً فإن ما يَدفع الغرب لاحتلال الدول - مثل أفغانستان والعراق وسورية وليبيا - يعود لفقدان المحاسبة القانونية.
وبالتالي فإن الـ 40 مسؤولاً غربياً لن يدخلوا السجن.
إلا أن العراق لا يزال يفتقر للاستقلالية التامة بسبب وجوب قوات أجنبية ترفض الخروج.
إذ تجري حالياً محادثات عراقية - أميركية مكثفة وغير معلَنة تحاول فيها حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، التوصل إلى صيغة لانسحاب كل القوات العسكرية الأميركية والإبقاء على قوات تدريب واستخباراتية تساهم في القضاء على فلول تنظيم «داعش» ليس إلّا.
ولن يستطيع السوداني التطرق إلى سحب السلاح من أيدي التنظيمات المختلفة القوية، لأنها تربط مسألة نزع السلاح وتسليمه بخروج قوات الاحتلال أولاً.
وما يعني هذه التنظيمات وجود قوات أميركية ترفض الخروج وتهدّد الدولة بإزاء أي خطوة قانونية تدفعها لمغادرة بلاد ما بين النهرين، خصوصاً أن الأموال العراقية العائدة لإيرادات النفط تصبّ في البنك الفيديرالي الأميركي الذي يملك السلطة لحجب الأموال عن حكومة بغداد.
وقد استخدمت أميركا هذه الورقة تحت عنوان ان العراق يقدّم التسهيلات لإيران ببيع نفطها وإيصال العملة الخضراء إلى «الجمهورية الإسلامية» مساهماً بضرب العقوبات الاحادية وجعلها أقلّ فاعلية.
إلا أن الرسالة الأساسية التي تلقّفها القادة العراقيون هي ان أي ضغط لسحب القوات الأميركية ستكون تبعاته الاقتصادية مدمّرة.
وهذا ما كان جاهر به الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي أضاف انه يريد ثمن كل المطارات والمنشآت العسكرية التي بنتْها القوات الأميركية.
وهذا ما حصل لأشهر قليلة في العراق، حيث تدهورت العملة المحلية أمام الدولار لتعود أميركا وترضى على بغداد التي إطلقت باب التعاون بين المصرف المركزي العراقي ووزارة المال الأميركية ودائرتها المعنية، بالتعاون مع وزارة العدل، بالتأكد من فاعلية العقوبات ومراقبة جميع الحسابات المصرفية والحركة المالية.
وهذا ما سمح بعودة الدولار من سعر ألفي دينار إلى 1300 في السعر الرسمي (1500 في الأسواق).
من هنا فإن أي محاولة لإخراج أميركا عن طريق البرلمان (كما حصل عام 2020 بعد اغتيال أبومهدي المهندس واللواء قاسم سليماني) أو عن طريق المفاوضات لن تأتي بأي نتيجة.
وتالياً فإن الأحزاب المسلّحة - ومنها مَن تسمي نفسها بالمقاومة للاحتلال - لن تسلّم السلاح أبداً ما دامت أميركا موجودة.
لكن القوات الأميركية ليست الوحيدة في العراق. فهناك قوات عسكرية تركية في نحو 15 قاعدة عسكرية في شمال العراق - كردستان، وترفض الخروج وتتمسك بصيغة «دعوة الأكراد للقوات التركية لتدريب البيشمركة».
وهذا يدلّ على ان جميع القوات تتمسك بـ «التدريب»، رغم عدم حاجة العراق - الذي خاض المعارك الشرسة ضد «داعش» واكتسب خبرة قتالية واسعة - إلى قوات أجنبية تدرّبه.
بل ان بغداد لا تستطيع فرْض خروج أنقرة التي تتحكّم بتدفق المياه إلى بلاد ما بين النهرين التي خسرت ملايين الأمتار المكعّبة من المياه وسط نزوح أكثر من مليون ونصف المليون عراقي من القاطنين حول ضفاف النهرين بسبب النقص الناتج عن بناء السدود التركية و«تقطير» التغذية، خلافاً لما تفرضه القوانين الدولية التي لا تلتزم بها أنقرة.
من جانبها، تحتفظ أميركا بقواتها وقواعدها في العراق لأسباب متعدّدة، أهمها الدفاع عن موقع قدمٍ مهمّ تحاول من خلاله منْع دخول روسيا والصين إلى دولة نفطية غنية تحتاج لإعادة بناء بنيتها التحتية المهترئة.
وبالتالي، فإن دخول دول أخرى قوية تقدّم نموذجاً آخَر عن الأميركي بعيداً عن الهيمنة العسكرية سيضرّ بسمعة واشنطن وسيطرتها على تلك البقعة من العالم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أميركا تطبع الدولارات، وتالياً فإن إنفاقها 2.4 تريليون دولار في أفغانستان و108 تريليونات في العراق، لم يكن يُعتبر مشكلة لأن هيمنة الدولار عالمياً كافية لتحتفظ بالسيادة المالية رغم بلوغ ديونها الداخلية 31.4 تريليون دولار، بينما أخذ اليورو حصة من الاحتياط العالمي، وبدء توسع استخدام اليوان الصيني.
إلا أن الحرب على روسيا بدأت تضرب الدولار الذي تضعضعت هيمنتُه المطلقة على دول كثيرة في شرق آسيا وغربها وأميركا اللاتينية.
أيضاً، فإن أميركا تفكّر بعضلاتها العسكرية وليس باستراتيجية الشراكة الطويلة الأمد: فهي دولة عظمى لم يكن يزاحمها أحد على سيادة العالم منذ العام 1992 حين خرجت موسكو من المعادلة.
وتالياً فإن سيطرتها على العالم تسمح لها باحتلال الدول الأضعف غير المتماسكة من دون مشقة كبيرة ما دام الإعلام العالمي يغطّيها وآلة أميركا العسكرية تسمح لها بالنصر.
لكن هل استطاعت أميركا إحلال السلام بعد الانتصار العسكري؟ طبعاً لا. ففقدان السياسة الإستراتيجية الواضحة في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية وقلة الخبرة في كسب القلوب والعقول، واستخدام الترهيب والتهديد، هي الطرق التي تؤدي بالأمبراطورية الأميركية إلى السقوط والانحدار الذي بدأت معالمه ترتسم على الخريطة الدولية.
أما بالنسبة لإيران التي يشغل نفوذها في العراق دولاً غربية عدة، فجلّ ما تفعله هو لملمة الانتصارات خلف الإخفاقات الأميركية.
إنها إخفاقات متواصلة ترسخت في العراق، وأثبتت معها واشنطن أنها لا تملك أي إستراتيجية أو رؤية سياسية واضحة وتسجّل الهزائم تلو الأخرى.
وتالياً، ينبغي على الولايات المتحدة إعادة النظر بسياستها الدولية قبل فوات الأوان وتَعاظُم قدرات دولٍ مثل الصين وروسيا والهند وإيران وغيرها، وإنهاء المنافسة وتَقبُّل الأمر الواقع فتنضمّ لبناء ما دُمّر وليس لتدمير ما بقي.