مبادراتٌ فردية خجولة.. معلَنة ومكتومة
فنانو لبنان.. لا يهزّهم «الزلزال الاجتماعي»؟
... مع كل «خَضة» يشهدها لبنان ثمة «غَصة» تَخرج إلى العلن على شكل قضيةٍ مثيرة للجدل... أين فنانو لبنان من المحنة الكبرى و«الوجودية» التي يعيشها شعبهم؟ هل هم معنيون بردّ التحية بمثلها لجمهورٍ صَنَعَ نجوميتهم عبر الوقوف إلى جانبه في أيامه السود أم أنهم مجرد أداة ترفيه و... نقطة على آخر السطر؟
هذا «الجدل» الجديد - القديم أطل برأسه أخيراً بفعل تطورٍ مزدوج... الزلزال المدمّر الذي أصاب تركيا وسورية وما نجم عنه من التفافِ فناني البلدين، مادياً ومعنوياً وتَضامُنهم مع شعبهما، وبقاء غالبية الفنانين اللبنانيين في موقع المتفرّج في حين يعاني شعبهم أزماتٍ «جهنمية» هي الأسوأ والأشدّ ضراوة والأكثر مرارة في تاريخه.
لا شك في أن العطاء لا يحتاج إلى «طَبْل وزمر»، كما يقال، وقد نجهل الكثير مما يقوم به بعض الفنانين من مبادراتٍ إنسانيةٍ لمدّ يد المساعدة إلى مَن هم بحاجة إليها، لكن تبقى هذه المساعدات في حدود فردية ولا ترقى إلى مبادرات وطنية تحتاج إليها «بلاد الأرز» في هذه الأيام المأسوية. مبادرات إنمائية يمكن أن ترتصف فوق بعضها البعض لتشكل سنَداً لبلاد تتهاوى في قعر لا قعر له ودعْماً لمؤسساته العاجزة، وتُحْدِث فارقاً في حياة الناس.
ثمة مبادرات تخرج إلى العلن بين الحين والآخَر من فنانين وتبلسم بعض الجروح، على غرار ما قامت به الفنانة ماجدة الرومي حين ساهمت في تأهيل طريق المصنع على الحدود اللبنانية – السورية والتي تَسببت في وفاة الفنان جورج الراسي، وذلك عبر إضافة الإضاءة والشارات الضوئية لتحذير السائقين، فساهمت بذلك في إنقاذ أرواح كان يمكن أن تزهق على ما بات يعرف بـ «طريق الموت».
وعلى خطاها سار الفنان ملحم زين الذي عمد إلى تثبيت عواكس ضوئية على طول الأوتوستراد البحري بين الجنوب وبيروت، ومن بيروت إلى شكا، أي على مسافة تمتدّ 120 كيلومتراً، مساهماً بذلك في وضع حد للحوادث المميتة التي تشهدها هذه الطرق الرئيسية نتيجة غياب الإضاءة عنها.
وتطل بين الحين والآخر برامج تلفزيونية تعرض الحالات الإنسانية التي تحتاج لمساعدة فورية ويظهر إسم بعض الفنانين وما تبرعوا به من مبالغ. عي ردات فعل مباشرة على حالات إنسانية يتفاعل معها الفنانون كما الشعب ثم تزول وتتلاشى مع خفوت الحديث عنها.
هذه المبادرات الإنسانية ما زالت خجولة، كما يقول لـ «الراي» الإعلامي والناقد الفني روبير فرنجية. فأثرياء الفن على ما يبدو يؤثرون مبدأ «الأقرباء أوْلى بالمعروف» ومساعداتهم تذهب في غالبيتها إلى مَن يحوط بهم من أقارب ومرافقين ومدراء أعمال ومتزلّفين على قاعدة «أهلية بمحلية». ويضيف: «حتى اليوم لم نشهد مبادرات إنمائية على صعيد الوطن كإفتتاح مدرسة رسمية مثلاً أو شق طريق أو حفر بئر إرتوازي أو بناء خزان مياه أو ترميم مبنى متضرر أو القيام بمشاريع إنمائية توافر وظائف للناس المحتاجين... لم نسمع بدار أيتام بُنيت على نفقة فنان أو دار عبادة... حتى توفير الدعم لفنانين يعانون من أوضاع مادية سيئة لا يبدو أمراً مألوفاً، فقد سمعنا أخيراً عن الفنانة جورجيت صايغ التي تشكو في شيخوختها عدم القدرة على الرؤية بعينيها، لكنها لم تجد مَن يطبّبها لا في السر ولا في العلن رغم المناشدات الكثيرة عبر الإعلام ووسائل التواصل. حتى بعد إنفجار مرفأ بيروت وهو أسوأ الكوارث التي شهدها لبنان لم أعرف، رغم كوني مطّلعاً عن كثب، أن أي فنان هبّ لإعادة بناء المستشفيات أو المدارس التي تهدّمت رغم توافر قدرات مادية كبيرة عند قسم لا بأس به منهم».
لكن هذا لا ينفي إنخراط البعض بأعمال إنسانية، كما يؤكد فرنجية: فـ «مدارس راغب علامة مثلاً تساعد الكثير من الطلاب وتؤمّن فرص عمل لأساتذة كثر،ونجوى كرم تساعد في طباعة كتب لمؤلّفين مبْدعين غير قادرين على طباعة إنتاجاتهم الفكرية. أما جورج خباز فيساعد عبر تسهيل ضمان مسرحياته العديدَ من الجمعيات الخيرية والبلديات الصغيرة. وتكثر الأمثلة التي باتت معروفة من الناس، مثل مؤسسة عياش للطفولة التي أنشأها رامي عياش، أو إنخراط غسان صليبا في قضية التوحد، ومبادرة وائل كفوري إلى تعليم الأطفال في مدينة زحلة والمساهمة في إضاءة المدينة خلال الأعياد».
ويروي فرنجية أنه خلال تقديمه لمجموعة من الحفلات لدعم مراكز التوحّد بادَرَ العديد من الفنانين مثل عاصي الحلاني ونجوى كرم وفارس كرم إلى تقديم مساعدات إنسانية. ولا ينكر ما يقوم به الفنانون من أعمال إنسانية تبقى أحياناً كثيرة طي الكتمان لكنه يصرّ على أنه «لا يرقى إلى مستوى الإلتفاف الجامع للفنانين الذي تشهده في بلدان أخرى حول أبناء شعبهم ودولهم، وكأن الفنان في لبنان يشعر بأنه غير مضطر للقيام بما يتوجب على دولته القيام به».
أخبارٌ مضخّمة عن مساعدات مادية قدّمها الفنانون اللبنانيون إلى ضحايا الزلازل في سورية، ومبالغ مالية خيالية بقيتْ كلها ضمن إطار التضخيم الإعلامي وتحمل الكثير من المبالغة. حيث قيل مثلاً إن فنانة لبنانية تبرّعت بمليوني دولار لمنكوبي الزلزال في سورية ليتبيّن لاحقاً أن الخبر مشكوك فيه ولم يَصدر أي تأكيد من أي جهة له. كما أعلن عدد من الفنانين عن تخصيص ريع حفلاتهم إلى المتضررين.
المساعدات كما يؤكد فرنجية «تبدأ بالمقربين وكلٌّ يساعد محيطه، وليس لهم بالجميل، كما تقول العبارة الشعبية، فهو أمر يقوم به عادة كل إنسان تجاه مَن يحب، ولكن الواجب الوطني يقضي بمساعدة أبناء الوطن». ويضيف «أنا لا أحكم على أحد ولا أدين أي فنان. فليس من واجب الفنان أن يحلّ مكان الدولة، والتبرع ليس إلزامياً. لكن مشاعر التضامن مع أبناء الوطن ومع المنكوبين أينما وُجدوا مطلوبة في كل الأوقات».
لكن هل يمكن وضع الفنانين كافة في سلة واحدة؟ يردّ فرنجية: «لا شك في أن الوضعَ الفني على صعيد الغناء أو التمثيل فرز فنانين ميسورين وآخَرين مستورين يعانون من سوء أوضاعهم المادية نتيجة غياب فرص العمل، أو حتى التقدم في السن. والفئة الثانية تحوي نماذج مؤلمة لفنانين ما عادوا قادرين على العيش الكريم، يعيشون على ما يُقَدَّم إليهم من مساعدات بعد أن تعلو صرخات بعض المهتمّين عبر الإعلام لمدّ يد المساعدة لهم وجمْع التبرعات من أجلهم».
لكن ما لا يمكن إنكاره أن الفنانين هم أولاً مواطنون في هذه البلاد البائسة إحتُجزت أموالهم في المصارف مثل غالبية الشعب اللبناني، وما جنوه خلال أعوام طويلة من العمل والنجومية بات رهن الوضع السياسي والمالي ولا يستطيعون التصرف به. ومن حقهم كما من حق أي مواطن لبناني أن يشكوا، وقد صَدم الفنان وليد توفيق الجمهور حين أعلن في وقت سابق ان حجم ثروته بلغ 20 مليون دولار لكنها عالقة في المصارف ولا يستطيع التصرف بأكثر من مبلغ صغير تمنّ به عليه المصارف أسبوعياً، أما مصير الثروة «فلا يعلم به إلا الله عز وجل» بحسب قوله.
وما ينطبق على وليد توفيق يَسْري على سواه ممّن جمعوا الثروات من الفنانين، ولكن إذا كان الله قد أنعم على بعض هؤلاء بفيض من الحفلات الفنية في كل أنحاء العالم العربي والعالمأ فثمة فنانون آخَرون عالقون في دوامة البطالة وفقدان فرص العمل وصولاً إلى الفقر المدقع. وبعض القطاعات الفنية تعاني أكثر من غيرها مثل المسرح الذي لم يعد قادراً على تأمين متطلبات الإنتاج ودفع رواتب الممثلين وبات يتكل على المساعدات لتأمين إستمرارية من يعملون فيه.
إزاء هذا الواقع، وبعيداً عن «محاكمة النيات»، غالباً ما تشكل الأزمات ذات الطبيعة الوجودية إختباراً للمجتمع بفئاته المختلفة، فكيف الحال بالنسبة إلى نخبه أو «مشاهيره» أو «نجومه» الذين يفترض أن يضيئوا ولو شمعة في الليل الحالك؟