No Script

واشنطن تخوض أقلّ الحروب كلفة عليها

لماذا تجرّأتْ أميركا على محاربة الجيش الروسي في... أوكرانيا؟

تصغير
تكبير

لم يكن مُفاجئاً إعلان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ أنه «ينبغي دعم أوكرانيا بالمزيد من السلاح لتتغلب على روسيا». فهذا ما تقوم به دول الناتو مجتمعةً منذ ما قبل الحرب التي اندلعت في فبراير الماضي. وكذلك لم يكن عابراً إبداء بولندا على لسان رئيس وزرائها إستعدادها «لخطوات غير مسبوقة بتزويد أوكرانيا بالدبابات الألمانية ليوبارد-2 حتى ولو رفضتْ برلين ذلك».

ألمانيا هي الدولة المصنّعة لتلك الدبابات والتي تملك القرار في ما خص الاستخدام النهائي لها. وينشط الإعلام الدولي في إظهار أهمية تسليم الدبابات لأوكرانيا وكأنها ستغيّر دفة الحرب برمّتها. إلا أن برلين – التي تتعرض لضغوط جمة – قررت ان تسلّم الدبابات لكييف في حال وافقتْ جميع الدول الغربية على هذه الخطوة لإشراكها في تَحَمُّل النتائج وردات الفعل التي يمكن أن تَصدر عن روسيا.

والسؤال هو هل تستطيع هذه الأسلحة تحرير الأراضي الأوكرانية التي تحتلّها روسيا؟... الجواب جاء على لسان رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارك ميلي الذي اعتبر ان «من الصعب للغالية دحر القوات الروسية من أوكرانيا هذه السنة»، في إشارة إلى أن الحرب مستمرة لأعوام مقبلة وكذلك الدعم الغربي حيث لا رغبة لدى أميركا في وقف حرب تكلّفها القليل من المال وتنأى بجنودها عن أي خسارة.

وأعلن منسق العلاقات الخارجية الأوروبية ونائب رئيسة المفوضية جوزيب بوريل ان أوروبا إستخدمت مخزونها من الأسلحة والذخائر بعدما أرسلت إلى أوكرانيا ما تحتاجه وأن ذلك أصبح يشكل خطراً على أمن حلف الناتو ومخزونه العسكري.

وكذلك كشف ان البنتاغون قرر إرسال مخزونه من الذخائر القابع في إسرائيل بما يتعدى الـ700.000 قذيفة مدفعية، وأن مخزون الولايات المتحدة من صواريخ ستينغر وجافلين وهيمارس وهاوتزر عيار 155 ميلليمتراً قد نقصت في شكل جدي. وهذا يعني ان حرب روسيا التي لم تنهِ سنتها الأولى أفرغت مستودعات الناتو ووضعت أميركا في موقف حرج.

ورغم إعلان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ان «المخزون الروسي من الأسلحة قد نفد»، فإن المعركة ما زالت دائرة بالوتيرة عينها، والجيش الروسي يتقدّم في ميدان المعركة ليصل إلى مدن رئيسية، مثل باخموت، وذلك بعد سيطرته على سوليدار، دون الإكتراث لِما قرره وزراء دفاع الناتو في إجتماعهم الأخير في قاعدة رامشتاين الألمانية بعدم خفض مستوى الدعم العسكري لأوكرانيا.

وخلال الأشهر الـ 11 من الحرب، أكد غالبية المسؤولين الغربيين ان «روسيا لن تخسر الحرب ولكن على أوكرانيا ان لا تخسرها هي أيضاً». وهذا يعني ان الغرب قرر المضي في تدريب الجيش الأوكراني على أسلحة الناتو لمواصلة حرب يجب ان تدوم لأطول وقت ممكن بغية إستنزاف الكرملين وقدراته.

وهذا لا يعني أن أهداف الغرب ستتحقق، وخصوصاً أن روسيا تملك الإحتياط الطبيعي والمخزون المالي اللازم للصمود أمام العقوبات التي تحترمها فقط حفنة من الدول. في حين ان أوروبا ما زالت حتى اليوم تشتري الغاز الروسي مباشرة وغير مباشرة عن طريق دول ثالثة، ومثلما فعلت إيران لعقود طويلة، إذ لا توجد عقوبات غير خاضعة للإختراق ما دامت الدول تحتاج للذهب الأسود الذي تقدّمه الدول المعاقَبة بأسعار تشجيعية يصعب مقاومتها.

وينبع هذا الاستخفاف الغربي بقدرات روسيا، أو على الأقل تحدّي ثاني أقوى دولة في العالم، من عوامل عدة ظهرت منذ الأيام الأولى للحرب ويتحمّل نتائجها أداء الجيش الروسي وإنجازاته - أو إخفاقاته - في أرض المعركة.

ففي الدرجة الأولى، لم يعد أي مراقب يشكّ في أن الحرب تدور بالوكالة بين دول الناتو بقيادةٍ أميركية ضد روسيا. ثانياً، لم يكن يتوقع الرئيس فلاديمير بوتين ان أوكرانيا أصبحت دولة معادية وأن جيشها مستعدّ للقتال تحت قيادة الناتو في قاعدة رامشتاين الألمانية. ثالثاً، أن أميركا أخطأت أيضاً في توقعاتها بأن الأوليغارش المعاقَبون من الغرب والمصادَرة أموالهم سينقلبون على بوتين الذي سيخسر دعم الروس بعد أسابيع من الحرب وبعد ان تخضع بلاده للعقوبات غير المدمّرة. رابعاً، ان عدم إستخدام روسيا للقبضة الفولاذية التدميرية قبل زجّ القوات البرية أشار إلى عدم رغبة الكرملين في تدمير أوكرانيا في الأشهر الأولى من الحرب إنطلاقاً من إعتقاد القيادة الروسية خطأً أن أوكرانيا ستستسلم.

وهذا ما أعطى الجرأة لحلف الناتو على تحفيز الجيش الأوكراني على الصمود ودفع القوات الروسية إلى الوراء. وبدأ الناتو بإغداق الجيش الأوكراني بالتدريبات والدعم اللوجستي والإستخباراتي والمالي وإعطاء نافذة دولية للرئيس فولوديمير زيلينسكي على برلمانات وقادة العالم لدعمه معنوياً وإظهار قدرة أميركا في المسرح العالمي. ووقعت أوكرانيا في فخ «العم سام» المقتدر. بالإضافة إلى ذلك، فإن قرار روسيا بعدم إستخدام المطرقة الغليظة في الحرب تسبب بتجرؤ الغرب على ضرب أهداف داخل روسيا، كما فعل ضد جزيرة القرم ومطارات عسكرية داخل روسيا ومدن روسية حدودية دون ردات فعل روسية مدمّرة.

أما على المقلب الروسي، فقد ظهرت تعيينات متعدّدة لقيادة الحرب في أوكرانيا وتوالى جنرالات عدة لقيادة العملية العسكرية التي سُلّمت أخيراً إلى قيادة الأركان وبالتحديد لقائدها اللواء فاليري غيراسيموف، بينما في الجيوش الغربية، تُسلم قيادة المعركة إلى جنرال ميداني يتمتع بكامل الصلاحيات على عكس القيادة الشرقية التي لا تعطي الضباط الكبار مطلق الحرية في العمل العسكري وفي إستخدام جميع الأذرع العسكرية كما يرونه مناسباً. وقد أراد بوتين إعطاء القيادة إلى رئيس الأركان كإشارة إلى رفع مستوى الحرب إلى أقصى درجة بسبب زيادة دعم الناتو العسكري وإلى أن لدى قائد الأركان كامل الصلاحية باستدعاء القوات اللازمة دون المرور بسلّم القيادة. وهذا ما يلبي حاجة القوات المقاتلة بوقت أسرع بكثير.

ومما لا شك فيه أن قلة خبرة الجيش الروسي في الحروب بالمقارنة مع خبرة الجيش الأميركي المخضرم - الذي إجتاح دولاً عدة ولديه خبرة لا تضاهى بإدارة الحروب - قد ظهرت في محطات عدة أثبتت أن الحرب كانت ضرورة للكرملين لرفع مستوى خبراته وخصوصاً انه يتعرض لجيش أوكراني لديه عقيدة القتال ويستخدم أساليب الدول الغربية مجتمعة. ومن المؤكد أن أخذ العِبر من هذه الحرب الضروس ستكون مَدرسة غنية للجيش الروسي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إعلان حلف الناتو إرسال الدعم العسكري المتواصل والمتدحرج إلى أوكرانيا يدلّ على غياب الهيمنة الجوية الروسية وضعف الإستخبارات التي لا تملك القدرة على معرفة تحركات الجيش الأوكراني ولا مكان تخزين السلاح لضرْبه قبل وصوله أو بعده. وهذه السيطرة الجوية قد أثبتتْها إسرائيل في سورية ولم تستطع روسيا فعل الشيء عيْنه في أوكرانيا. ولا يمكن إغفال التغطية الجوية الصاروخية الهائلة التي قدّمتها دول الناتو إلى أوكرانيا لتحييد سلاح الطيران الروسي.

ومن الواضح هنا ان روسيا لا تخيف حلف الناتو لأن بوتين لم يكشر عن أنيابه ولم يُظْهِر لدول الحلف الأطلسي أنها تسير على حافة الهاوية. بل ان التهديد بإستخدام النووي لم يعط النتيجة التي أرادها الكرملين لأن أميركا تقطر الدعم العسكري في شكل يعطي موسكو انتصاراً باهتاً عند إنتهاء العمليات العسكرية ودون دفع الكرملين للخروج عن طوره، مع الإشارة إلى أن روسيا تتحمل الخسائر البشرية على عكس الجيوش الغربية.

لقد بدأت روسيا المعركة ولكن يبدو ان إنهاءها ليس بيدها بعد رفض أوكرانيا وقف إطلاق النار حتى أيام أعياد الميلاد. وكذلك يبدو أن أكثر الأراضي التي إحتلها الجيش الروسي إستطاع ضمها في الأسابيع الأولى من الحرب. أما بعد ذلك، فإن السيطرة على مدينة صغيرة تبدو شائكة وطويلة حتى ولو – كما تقول الإستخبارات الألمانية – خسرت أوكرانيا المئات من الجنود يومياً في أرض المعركة.

ومما لا شك فيه ان دعم الناتو اللوجيستي سيبقى مستمراً، والتدريب على الأسلحة الأطلسية متوافراً ومتواصلاً لأن الحرب ما زالت مشتعلة. كذلك فإن إرسال المزيد من الدبابات ليس إلا وسيلة من الوسائل المتعددة لإغراق روسيا أكثر في حرب طويلة تتمنى أميركا أن تصبح أفغانستان أخرى لروسيا، وخصوصاً أن واشنطن تخوض أشرس المعارك والأقل تكلفة عليها وعلى جنودها وتنعش اقتصادها على حساب اقتصاد حلفائها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي