أوكرانيا تسير على خطى كوريا: لا سلام ولا حرب مستقبلاً
غيّرتْ الولايات المتحدة ومعها حلف «الناتو» نوعيةَ الأسلحة التي تقدّمها لأوكرانيا وارتقتْ بها من الهيمارس إلى الباتريوت والدبابات المتطوّرة في شكلٍ يؤدي إلى إستمرارِ الحرب ويؤكد مصلحةَ واشنطن بإبقائها مشتعلة ما دامت كييف مستعدّةً لإكمال القتال مع عِلْمها أنها لن تستطيع هزيمة روسيا.
وأعلن وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف في وقت سابق أن بلاده «التزمت مهمة الناتو بإزالة الخطر الروسي» وان «جنوده وليس جنود الناتو هم من يقدّمون دماءهم لهذا الهدف». فهل هناك أفق لإنهاء الحرب في أوروبا أم أنه مقدَّر لها ان تستمر لمدة طويلة؟
في شهر يوليو عام 1950 إندلعت الحرب الكورية بين الشمال والجنوب ما إستدعى تدخلاً أميركياً مباشراً في الحرب وإرسال الجنرال دوغلاس ماك آرثر لقيادة المعركة على رأس جنوده. وإستمرّت الحرب بين الكوريتين ثلاث سنوات من دون أن يُنْجِز أيٌّ من الجانبين أهدافه، إذ لم تتمكن كوريا الشمالية من تحويل الجزء الجنوبي إلى حُكْمها الشيوعي ولم تتمكن أميركا من تحرير شمال كوريا من الشيوعية. ولم يتمّ توقيع أي معاهدة سلام وما زال الطرفان يعتبران نفسيهما في حال حرب. وأنتجتْ هذه الحرب خسائر مروعة تجلّت في مقتل مليونين ونصف مليون من السكان ومن الصين وبينهم 36568 جندياً أميركياً و 103284 جريحاً من الأميركيين. وتقدَّر الأموال التي أنفقتْها الولايات المتحدة في هذه الحرب (على أساس دولار 2019) بنحو 390 مليار دولار.
وأنفقت أميركا في حرب فيتنام التي استمرت 18 عاماً نحو 844 مليار دولار (على أساس دولار 2019) وخسرت 58000 قتيل من جنودها. ودامت حرب أفغانستان 20 عاماً خسرتْ فيها أميركا نحو 2300 جندي وأنفقت 910 مليار دولار. وفي إجتياح العراق عام 2003 والبقاء فيه لـ 8 أعوام، أنفقت أميركا أكثر من تريليون دولار وخسرت 4400 جندي.
خلاصة هذا العرض المقتضب أن ما تنفقه أميركا اليوم في الحرب الأوكرانية (نحو 50 إلى 60 مليار دولار) يُعَدّ مبلغاً بسيطاً بالمقارنة مع نفقاتها في الحروب السابقة، وخصوصاً ان هذه الحرب لا تكلّفها أرواح الأميركيين الجنود التابعين مباشرةً للقيادة المركزية الأميركية في ألمانيا، بل أرواح أوكرانيين كما أكد وزير الدفاع الأوكراني.
من هنا فإنه، ما دام الرئيس جو بايدن في السلطة فهذا يعني أن الولايات المتحدة مصممة على مقارعة روسيا (وإخضاع الصين كهدف أساسي بعد إبعادها عن موسكو). وما دامت أوكرانيا مستعدّة لتقديم التضحية البشرية طوعاً والقبول بتدمير البنى التحية وخسارة الأراضي (نحو 100.000 كليومتر مربّع لغاية اليوم)، فلا توجد أي إشارات تدل على أن المعركة في أوكرانيا ستتوقف قريباً. فكلا الطرفان، بايدن والرئيس فلاديمير بوتين، مصممان على عدم الخسارة.
وعلى ما يبدو، فإن الطرفين المنغمسين في الحرب، دول الناتو وروسيا، يستخدمان أنواعاً مختلفة من الأسلحة لإختبارها في معارك حقيقية تدور رحاها في أحوال جوية متقلّبة للتأكد من فعاليتها وليتمّ تعديلُها أو تطويرها أو إزالتها من الخدمة تبعاً لأدائها والنتائج التي تقدّمها.
ومما لا شك فيه ان الحرب الأوكرانية أصبحت مختبرَ تجارب للأسلحة وإختبار القدرات العسكرية وإحتياجات القوات لتطوير نفسها على الحروب الجديدة وإستخلاص العِبر من جميع الجيوش التي تراقب عن كثب تطور المعركة. وقد قررت بريطانيا إرسال 14 دبابة شالينجر، وهناك ضغوط تمارس على ألمانيا لتسمح لدول أوروبا الشرقية بإرسال دبابات ليوبارد رغم أن هذه الكمية لا تغيّر من نتائج المعركة إلا قليلاً من دون أن تساهم في إنهائها بسرعة على الأقل. وهذا التقطير الغربي للأسلحة يدلّ على أهداف حلف الناتو بإدارة المعركة لإطالتها وللتدحرج بتدفق الأسلحة النوعية تدريجاً لتفادي أي ردات فعل عنيفة من الكرملين، أكثر مما هي عليه اليوم.
لقد ربحت أميركا على الصعد الإقتصادية والعسكرية، ونجحت بفصل أوروبا عن روسيا لسنوات طويلة مقبلة، وأوجدتْ شرخاً في العلاقات الإقتصادية والطبيعية بين دول القارة الأوروبية. وأصبحت دول أوروبا الشرقية أكثر حماسة لمعاقبة روسيا من دعاة الحرب بين المسؤولين الأميركيين.
وهكذا سقطت إستراتيجية روسيا القديمة التي بُنيت عليها مرحلة ما بعد البيريسترويكا، والتي إعتَبر فيها بوتين علناً عام 2000 ان روسيا هي جزء من القارة الأوروبية وثقافتها وأنه لا يرى بلاده أبداً في عزلة عن أوروبا. وكان بوتين أعلن حينها أنه يصعب عليه إعتبار حلف الناتو كعدوّ وتالياً يجب إتخاذ القرارات والخطوات لحفظ الأمن الدولي بمشاركة الغرب وروسيا وليس بمعزل عن بلاده وإعتبارها شريك إستراتيجي.
إلا أن السياسةَ الأميركية لم تبنِ أهدافَها وفق هذا المسار. بل جذبتْ الولايات المتحدة روسيا إلى حلف الناتو كشريك وليس عضو، وأدخلتْها إلى مجموعة الدول السبع لإعطاء الإطمئنان الكافي لموسكو. ولكن، في الوقت عينه، توسّع الناتو من 12 عضواً إلى 30 ورفَض إدخال روسيا إلى عضويته كي لا تملك حق الرفض لأي عضو جديد. وبدأ تسليح أوكرانيا، بعد الإنقلاب على الرئيس الأوكراني الموالي لموسكو، وتجهيز كييف للمعركة الكبرى. وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حين لمحا في تصريحاتهما إلى أنهما ربحا الوقت المناسب لتقوية أوكرانيا إستعداداً لمواجهة روسيا.
وفي أعقاب هذه التصريحات، إنعدمتْ الثقةُ إلى غير رجعة بين أوروبا وروسيا، وخصوصاً بعدما إتضح للكرملين أن أوكرانيا أصبحت دولةً عدوة تستخدمها أميركا لضرب الإقتصاد الروسي وإزاحة بوتين من السلطة. وهذا يعني أنه لا توجد مصلحة لدى الولايات المتحدة بوقف الحرب في الوقت الراهن، بل أن الهدف الطويل المدى يقضي بإيجاد حالة في أوكرانيا شبيهة نوعاً ما بالكوريتين، حيث لا وقف لإطلاق النار ولكن وقْف أو تجميد الأعمال العدائية ليلتقط الطرفان أنفاسَهما وتبقى خطوط التماس مرنة.
ومما لا شك فيه ان أميركا تزيد من تسليح أوكرانيا مُواصِلةً المعركة لمواجهة روسيا أو المطالبة بعودة الأراضي الأوكرانية بدءاً من جزيرة القرم إلى مقاطعات لوغانسك ودونيستك وزاباروجية وخيرسون إلى حين إنتهاء ولاية الرئيس بايدن وإستلام رئيس آخر. وهذا لا يعني ان أي رئيس أميركي يستطيع مواجهة الدولة العميقة والبنتاغون، وخصوصاً أن الهيمنة الأميركية على العالم هي أهداف الرؤساء الأميركيين، ديموقراطيين وجمهوريين، وإن إيجاد دولة مثل أوكرانيا مستعدة للتضحية في سبيل تحقيق الأهداف الأميركية ليس بالأمر الذي يتخلون عنه بسهولة. ولن يجرؤ أي رئيس على سحب يده من مواجهة روسيا أو التوقف عن تدريب وتسليح أوكرانيا، لأن السياسيين الأميركيين المناصرين للحرب، والإعلام الغربي المعادي لموسكو لن يدعوه يُصادِق بوتين. وتالياً فإنه مقدَّر لأوكرانيا ان تتقسم أو على الأقل تفقد جزءاً من أراضيها لأن موسكو لن تقبل الخسارة ولن تنسحب حتى ولو جاء رئيس آخَر إلى الكرملين.
بسبب انعدام الضمانات والثقة بين جميع الأطراف الأوروبية (بما فيها روسيا)، وبتصميم أميركا على الدفاع عن قيادتها للعالم، وصلابة الكرملين على عدم خسارة الحرب الدائرة، فإن أوكرانيا ستستمر في دفْع الثمن الأكبر، وتأمل الإنضمامَ إلى الغرب الذي لم يَعِدْ يوماً بأنه سيضمّ دولةً مشرذمة إلى صفوفه بعد إنتهاء الحرب.