تحوّل رمزاً للمطالبة بالحقيقة في تفجير مرفأ بيروت
وليم نون... حكاية شابٍ شجاع
ليس مرشحاً رئاسياً وليس نائباً أو وزيراً أو سياسياً، لكن اسمه على كل شفة ولسان في لبنان في الساعات الأخيرة وفي الأشهر الماضية، وتحديداً منذ الرابع من اغسطس 2020.
يوم هزّ انفجار المرفأ العاصمة ووصل خبره الى بلدة مشمش الجبيلية، الواقعة على بعد نحو 60 كيلومتراً من بيروت، لم يكن وليم نون، الشاب الذي أوقفتْه مديرية أمن الدولة بناء على اشارة قضائية يوم الجمعة، يعرف أن قدَراً أسود يتربص به وبعائلته. فَقَدَ وليم شقيقه جو أحد عناصر فوج الإطفاء في انفجار المرفأ، فتغيّرت حياته منذ تلك اللحظة.
يعرف أبناء البلدة وجوارها عائلة نون معرفة طويلة. عائلةٌ يُشهد لها بالتقوى والسلام، هي التي تدأب على زيارة مار شربل في عنايا المجاورة لـ مشمش، وبعيدةٌ عن أي خصومة، تعرف الجميع في المنطقة ويحبها ويحترمها الجميع. وحين ألمّت بها مصيبةٌ رَفَعَ الكل صورة الشهيد جو على الطريق المؤدية الى البلدة التي ودّعته ووقفتْ إلى جانب عائلته، كما فعلتْ مجدداً بتضامُنها منذ يوم الجمعة مع وليم وقطْع أبنائها الطرق للافراج عنه وتعرُّضهم للضرب.
منذ أن ودّع وليم شقيقه جو، نذر نفسه لملاحقة مرتكبي التفجير. ليس فقط كرمى لدموع أهله ودموعه التي ذرفها على شقيقٍ عُرف بإيمانه وبإخلاصه في عمله واندفاعه في فوج الإطفاء. كان وليم يتحرك بغريزة الدفاع عن الحقيقة التي أردات السلطات اللبنانية بوجوهها المختلفة إخفاءها. انضمّ الى تحرّك لجان عائلات الشهداء وكان ناشطاً ومُدافعاً عن الضحايا والجرحى والمتضررين، وداعياً من دون كللٍ الى التظاهر والاعتصامات.
بين يوم وآخَر تحوّل وليم عبر شاشات التلفزيون شاهداً على الظلم الذي لحق بعائلته وعائلات الضحايا والألاعيب السياسية التي «طيّرت» قضاة ولعبت بالملف القضائي ودافعت عن المرتكبين في وجه الضحايا وعائلاتهم التي حاولوا تفريقها وإدخالها في زواريب السياسة.
صحيح ـن الإعلام حاول أن يستثمر وليم نون في لعبة العصبيات ومقاضاة مرتكبي الجريمة، لكن وليم لم يتحرك بدافع النجومية كما يتّهمه للمفارقة مناصرو «التيار الوطني الحر» وقوى 8 مارس، وهم الذين نشطوا منذ أن برز مُدافِعاً عن الحقيقة، للاشادة بتوقيفه والدعوة الى محاكمته بدل محاكمة مرتكبي الجريمة.
كان وليم نون هو الذي يستثمر الاعلام لا العكس، من أجل قضية ضحايا المرفأ والمطالبة بالعدالة. منذ أغسطس عام 2020 الى اليوم، لم يتعب وليم في الإطلالات وفي التحرك لإيصال صرخته الى كل مَن يريد أن يسمع، وكان يستخدم كل ما هو متاح أمامه من وسائل للتعبير عن غضبه والاستفزازات التي تطال عائلات ثكلى.
انتُقد، ولا سيما من مناصر التيار الوطني الحر، بأنه ألعوبة في يد القوات اللبنانية وحزب الكتائب، وأن لغته حادة باستخدام السباب أحياناً في اطلالالته. لكن وليم العفوي كان يصرخ ويستغيث. وأحياناً أمام صلافة وصمت المسؤولين، وبعد التعرض للمتظاهرين وللمعتصمين وعائلات الضحايا، كان يلجأ الى إطلاق عبارات نابية في حقهم، وينتفض انتفاضةَ الذي يراهن على كل ما يملكه من أجل الدفاع عن حقه.
ولم يتعب. ابنٌ جبليّ عن حق، عفوي، وصريح، لا يريد أن يوصَف بالبطل، وهو كذلك، ولا أن يتعاطى السياسة وإن كان يؤمن بقضية الدفاع عن لبنان وحريته وسيادته، بخلاف الاتهامات التي سيقت ضدّه. لكنه في قضية المرفأ لا يتعاطى السياسة، هو فقط يريد معرفة مَن قتل شقيقه ورفاقه وأسقط الضحايا ودمّر العاصمة. تلك هي «جريمته الوحيدة» التي يعترف بها منذ أكثر من سنتين. وكان يشكر كل مَن يساهم في رفع قضية المرفأ، ومَن يلتقيه ليحيي شجاعته التي لم تنقص دقيقة واحدة رغم التوقيفات والتعرّض له ولعائلته والتهديدات المتتالية بوقف صوته.
منذ اغسطس 2020 لم يعرف وليم الفرح إلا لحظة ارتبط بماريا، شقيقة سحر الشهيدة التي سقطت من فوج الإطفاء كذلك في مرفأ بيروت. هما اللذان حملا صور شقيقه وشقيقتها، اجتمعا على معرفة الحقيقة وتعاهدا على الحب واستمرار المعركة، في أجواء امتزجت فيها دموع الفرح والألم، وأبكت مَن رأى احتفالهما. وندر ان اهتمّ الاعلام بقصة حبٍّ كقصتهما بعدما أعلنا خطوبتهما قبل أسابيع قليلة. وها هو الامتحان لماريا في أن ترى وليم معتقلاً تعسفاً.
جريمة وليم نون، أنه رأى سابقا كيف تحولت قضية المفقودين والمخطوفين والمسجونين في سورية الى قضايا باهتة، في نظر السلطات والحكومات المتعاقبة، وكيف عوملت العائلات التي تفتش عن الحقيقة. وهو رفض ان يَدفن قضية المرفأ في أدراج السياسة والمحسوبيات. يكفيه أنه دفن شقيقه جو وشقيقة خطيبته سحر، كما فعلت عائلاتٌ دفنت موتاها بحرقةِ مَن لا ينتظر أملاً من دولةٍ تتفرج على المجرمين وتعتقل الأبرياء الذين ينادون بالعدالة، و وليم نون واحد من هؤلاء. خطيئته الوحيدة أنه شجاعٌ في زمن الانكسار والضعف.