No Script

مشاهدات

القصص القرآنيّة مفتاح العِبر والنهوض

تصغير
تكبير

القصصُ القرآنيةُ تعتبرُ من أفضل وأحسن القَصص ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾.

فالهدفُ منها أخذ الفوائد والعِبر لمن تأمّل فيها ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.

القرآن العظيم هو دستور الخالق لإصلاح المخلوقين من البشر، وقانون السماء لهداية أهل الأرض، وكذلك الاستفادة والاعتبار من تجارب الأمم السّابقة.

ولقد شغلت القصّة القرآنيّة مساحة في الكتاب العزيز، حيث يأتي التّركيز على أخذ العِبرة، فليست القصّة مطلوبةً بذاتها لأجل التسلّي، أو للسّرد الفنّي والتّاريخي والقصصيّ، بل هي مفتاح لإيصال الفكرة الأساسيّة من العِبرة، لكي يؤسّس عليها النّاس، ويتفاعلوا معها بكلّ كيانهم، لينطلقوا بالنّهوض المطلوب لإصلاح واقعهم وعدم تكرار أخطاء الآخرين...

من هذه القصص القرآنية الفريدة نتناول قصة «مريم العذراء الصدّيقة» أم المسيح عيسى، عليه السلام، جاء ذِكرها في القرآن في مواضع عدّة حتى ان هناك سورة باسمها، وشهد الله لها بالعفة وطهّرها واصطفاها على نساء العالمين، والمعجزة الإلهية تمثّلت بحملها بالنبي عيسى عليه السلام وولادته من غير أب.

هكذا بدأت قصة السيدة مريم العذراء، عليها السلام، فنتوقَّف عند بدايات حياتها الشَّريفة، إذ كانت امرأة عمران تعيش الانفتاح الرّوحيّ على الله بكلّ وجدانها الإنسانيّ، بحيث لم يقتصر تفكيرها على التزامها بطاعة الله وخدمته فقط، بل كانت تفكِّر في امتداد ذرَّيتها في هذا الخطّ التّوحيديّ الذي يوحّد الله في العبادة والطَّاعة، ولذلك نذرت ما في بطنها خادماً لبيت الله وللعابدين له، في تمنّياتها أن يكون ذكراً صالحاً لهذه الوظيفة المقدَّسة.

ولمّا لم تتحقَّق لها هذه الأمنية، لأنَّ المولود كان أنثى، صارت أمنياتها أن يكون لهذه الأنثى شأن روحيّ في العصمة الذّاتيّة. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} فكانت أمة الله الَّتي منحها الله عنصر القبول الحَسن في رعايتها والعناية بها، وكان من مظاهر حركة هذا القبول الإلهيّ، ما هيَّأه لها من بيئةٍ صالحةٍ تكفل لها النموّ التربويّ الإنسانيّ في أجواءٍ منفتحةٍ على الإيمان والخير، وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}.

وقد كان إنبات مريم، من خلال البيئة الّتي وُلِدَت فيها وتحرّكت في حضانتها، إنباتاً حَسناً من خلال كفالة زكريّا، النبيّ الَّذي اختصَّه الله برسالته، وقد حصل على امتياز هذه الكفالة، عندما اجتمع عدّة من الصَّالحين، واقترعوا، ليفوز من تخرج القرعة باسمه بكفالتها، فخرجت القرعة باسم زكريّا، وذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} وذلك من خلال تنازعهم الّذي تمثَّل باقتراعهم على التكفّل بها.

وقد كان من كرامات الله على السيّدة مريم التي تقبَّلها بقبول حسن، أنه أرسل إليها الملائكة لتبلّغها مكانتها المميّزة عند الله، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}.

فقد اختارها الله لتكون النَّموذج الأمثل والقدوة الحسنة الّتي ترتفع في درجتها، وفي قربها إليه، ومحبَّته لها، ومحبَّتها له، وسعيها للحصول على رضوانه ولطفه، لتكون بذلك متميّزةً عن نساء العالمين، إضافةً إلى طهارتها الروحيّة، فلم تعلق بها أي قذارة أخلاقيّة أو معنويّة، بل كانت مُنـزّهةً عن ذلك كلّه، بما تمثّلته من العفَّة الجسديَّة الّتي لم يكن لها مثيل.

وكانت البشارة العجيبة بالمفاجأة التي ملأت نفسها بالغرابة، وهي البشارة بولادة مولودٍ منها بكلمةٍ من الله في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فهذا الوليد يولد بالكلمة الإلهيَّة.

فكانت الملائكة تتحدث مع السيّدة مريم عن السرِّ الإلهيِّ الذي أودعه الله في شخصيَّة هذا الوليد المبارَك، وذلك عندما تلده ليتكلَّم وهو في المهد، ليدافع عن براءتها ضد اتّهام مجتمعها لها، لأنها لم تتزوّج لتلد من خلال الزوج، ما يعزّز عندهم اتّهامها بالزّنا!

وهذا هو قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} وربّما عقدت المفاجأة لسانها، ولكنَّها تساءلت من موقع الصّدمة القويّة، لأنَّ هذه البشارة بولادتها طفلاً من غير زواج، يمثِّل أمراً غريباً في أعلى مواقع الغرابة مما لم يألفه الناس، ولكنّها لم تتحدّث بأسلوب الاعتراض الذي يستبعد مضمون ما جاءت به البشارة، لأنها عرفت أنَّ الملائكة كانوا يحدّثونها عن الله، لا بصفةٍ ذاتيّة منهم.

وهكذا صرخت بصوت الإنسان الذي يتحرّك من خلال الرّغبة في المعرفة: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، فارتفعت بسؤالها إلى الله بأسلوبٍ روحيٍّ من التوسّل إليه، لينقذها من هذا الجوِّ الغامض الذي صدمها بهذه البشارة.

وجاءها الجواب سريعاً من الله، بطريقة حديث الملائكة معها أو بشكلٍ مباشر: {قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فهو الخالق الَّذي يملك سرَّ الخلق، وهو الذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، فإنَّ نظام الكون في وجوده، إنما هو مظهر قدرته تعالى في دنيا العلل والأسباب، وهو بقدرته يستطيع أن يغيِّر هذا النِّظام وقتما يريد إلى أسباب وعوامل أخرى، لأنَّ الخلق لم ينطلق لديه من خارج ذاته، بل هو مرتبط بقدرته وإرادته، {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.

فابتعدت عن قومها وتنحَّت به إلى مكان قصيّ أي بعيد، وأنها التجأت عند المخاض إلى جذع النخلة.

قال الله عزّ وجلّ:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}.

وما جرى من معجزةٍ خاصّة بالولادة، وما صاحبها من مواقف عندما أتت به مريم البتول إلى قومها، وواجهوها بالافتراء والتّجريم، متناسين طهارتها ومكانتها الأخلاقيّة والروحيّة، وهي العفيفة التي عاشت بينهم، وكانوا يصدّقونها ويحترمونها ويؤمنون بقداستها ونزاهتها.

وما يهمّنا أيضاً الاعتبار من القصّة في كلّ جوانبها الروحيّة والأخلاقيّة والدينيّة، بما يحفّزنا على الإيمان أكثر بعظمة الله وقدرته وعظيم سلطانه، وحكمته التي جرت مع أوليائه الصَّالحين الّذين كانوا ولا يزالون قدوة صالحة طيّبة نافعة للنّاس، مهما تقادم الزّمن وحاول البعض التّخفيف من حضورهم السّاطع على الدّوام، كمشاعل للحريّة والطّهر في الفكر والقول والعمل.

إنّ القصص في القرآن هي وسيلة للبحث الحضاريّ والإنسانيّ، بمعنى أنّها ليست منفصلةً عن الواقع، تردّد أخبار الماضين وقصصهم وأحوالهم، بل إنّها تركّز على واقع حالهم وتصرّفاتهم ومصيرهم، كي نأخذ العِبر اليوم والدروس وننظر إلى تجارب الآخرين، ونستفيد من خطواتهم في تعزيز واقعنا والمبادرة في النّهوض والتّغيير فهي أداة توجيه وتربية وتثقيف للفرد والجماعة.

وهذا درس لنا بألا نفقد الأملَ عند أي مشكلة تصادفنا، وكذلك يجب التأني والتحقق والتأكد قبل اتهام الآخرين كما اتهم القوم السيدة مريم عندما شاهدوها تحمل ابنها.

تأنَّ في أَمرِكَ وافهمْ عني... فليس شيءٌ يعدل التأني

تأنَّ فيه ثم قلْ فإِني... أرجو لكَ الإرشادَ بالتأني

اللهمّ احفظ الكويت آمنة مطمئنة، والحمد لله رب العالمين.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي