«الراي» زارتْ سفينة «لوغوس هوب» وتحدثت إلى روادها
... هكذا استضافتْ «التايتنك» اللبنانية أضخم مكتبة عائمة
لم يكن عادياً أن يستضيفَ مرفأ بيروت المهشَّم وعلى مدى نحو عشرين يوماً مكتبةً عائمة هي الأضخم في العالم قاطبة. فعلى مرمى العين من الصوامع المكسورةِ الخاطر رستْ سفينةُ الـ 5 آلاف كتاب وكأنها عادت بعد 12 عاماً إلى بحر بيروت تواسي الوطنَ المتهالك الذي دهمتْه أزمة تكاد ان تكون وجوديةً وفُجّر رصيفه البحري ومرساه في واحدٍ من أعنف تفجيرات العالم.
بدت سفينة «لوغوس هوب»، وهي جاثمة تفتح ذراعيْها لآلاف اللبنانيين الذين جاؤوها زرافاتِ ووحدانا، كأنها تقلّ شيئاً من الأمل في عزّ حالٍ من اليأس اللبناني ربما عملاً بقول المتنبي «خير جليس في (هذا) الزمان الكتاب». فهذه السفينة التي كانت مسك ختام الـ2022 تحوّلت إلى ما يشبه «نزهة ثقافية» بين كتب تنوّعت محتوياتها وراعتْ إهتمامات ضيوفها من كبار وصغار.
بيروت التي «تعوم» فوق العتمة لعجزها عن إستقدام سفن الفيول منذ أمد بعيد، إحتفت بـ «نورٍ» من نوع آخَر على مدى أيام طويلة في حضرة المكتبة العائمة التي أفردت أجنحةً ورفوفاً لكتب بأسعار مخفوضة كأنها «تراعي» أوضاع اللبنانيين البائسة من شدّة الأزمة المعيشية الناجمة عن لعبة «القط والفار» بين الدولار النهِم والليرة الصريعة.
لبنان الذي «استحقّ» لقب الـ «تايتنك» بامتياز، بدا مزهوّاً بسفينة «لوغوس هوب» التي حلّت عليه ضيفةً لنحو 3 أسابيع كانت فيها «بلاد الأرز» في استراحة ما بين العواصف التي تتوالى وتتوالد ولا تنفكّ تدخل الكتب القياسية وأرقامها... السود.
حمولة ثقافية
حملت السفينة على متنها 5 آلاف كتاب تنوّعت مواضيعها بين فن الطبخ والعلوم والمعاجم وقصص الأطفال والإدارة والرسم، باللغتين العربية والإنكليزية، إضافة إلى أنواع كثيرة من القرطاسية والستيكرز وألعاب الأطفال. كما قدّمت عروضاً ونشاطات ثقافية مختلفة، مثل مسرحيات الأطفال.
ويعمل على متن السفينة متطوعون من 60 جنسية مختلفة، من بحارة ومهندسين وكهربائيين وممرضات ومدرسين وطهاة. وهي إحدى سفن الأسطول التابع لمنظمة GBA الخيرية، وتهدف بحسب البيان الإعلامي للطاقم إلى مشاركة المعرفة والأمل بين الناس. وهي تقوم منذ العام 2009 برحلات بحرية إلى غالبية الموانئ الدولية.
إقبال كثيف
ومنذ أن رست في 15 ديسمبر 2022 حتى مغادرتها، فتحت المكتبة العائمة أبوابَها أمام الزائرين من مُحِبي المطالعة والعائلات من الساعة الـ9 صباحاً حتى الـ10 ليلاً. وقد شهدت إقبالاً كثيفاً من لبنانيين من مختلف المناطق وأجانب من جنسيات مختلفة، وخصوصاً أن وجودها أتى بالتزامن مع أعياد الميلاد ورأس السنة.
وقالت نيلي أمهز، وهي أم لطفلين لـ «الراي» التي عاينت السفينة قبل مغادرتها «إنها تجربة جديدة وجميلة شارَكني فيها أطفالي. والمكتبة العائمة مليئة بالكتب المتنوّعة المخصصة للأطفال منها التعليمية ومنها الثقافية، وكانت فيها قصة للأطفال على جدران المكتبة، ومطعم صغير».
من جهتها، قالت الشابة شذى دياب، القادمة من الضاحية الجنوبية لبيروت برفقة أمها وشقيقها وشقيقتها، لـ «الراي»: «السفينة جميلة، وغالبيى الكتب فيها تحفيزية ومخصصة للأطفال، وقد إشترى أخي العديد من الكتب، وخصوصاً ان الأسعار تناسب الجميع».
يذكر أن زيارة السفينة كانت تبدأ بجلسة تعريفية حول خريطة المكان، لينطلق بعدها الزائر إلى مكان عرض الكتب، ومن ثم يمرّ بقسم «Journey of life» لينتهي الزائر في مطعم صغير يقدّم سندويشات سريعة وعصائر وآيس كريم، وكان لافتاً وجودُ مَقاعد خشبية للإستراحة يتخلّلها تقديم تلوين الأظافر مجّاناً للأطفال.
الأزمة وقد حَلت
وحالت الأزمة الإقتصادية دون شراء اللبنانيين للكتب، بإعتبار أن جزءاً كبير منهم رُمي خلال السنوات الثلاث الأخيرة في فم فقر مدقع أو تُرك ليواجه وحيداً صعوبة تأمين الحاجات الأساسية من مسكن ومشرب وغذاء، وبات شراء الكتب رفاهية للكثيرين، حتى أن بعض المكتبات أقفلت أبوابها نتيجة هذه الأزمة.
رحلة الحياة
بعد محطة شراء الكتب، يدخل الزائر القسم الأكثر رمزية ومعنوية في المكان، حيث عُلقت صوراً على جدار السفينة، تحكي قصة «Journey of life» أو بالعربية «رحلة الحياة»، وهو عرض تفاعلي يروي قصة إبن ضال.
وقد بدت القصة نفسها وطريقة سردها من قبل شاب متطوع، برازيلي الجنسية، يسكن في منطقة برمانا في لبنان، أكثر من رائعة.
وتدور أحداث القصة حول فتى قرر ترك والده المُزارع وأخيه، والإنتقال للعيش لوحده في المدينة بعدما حصل من والده على مبلغ كبير من المال إلى أن استقرّ به المطاف مشرداً من دون مأوى إثر فقدانه كل ما لديه وانفضاض أصدقائه عنه بعدما خسر أمواله.
في عدد من الصور المعلَّقة، بقي الفتى وحيداً إلى أن ظهرت صورتُه وهو يتذكر الحياة التي إعتاد أن يعيشها في منزل والده حيث كان يشعر بالأمان ولديه كل شيء، وأبسطها المسكن والطعام واللباس إضافة إلى دفء العائلة والحب.
وينتهي الأمر بعودة الفتى إلى المنزل لطلب السماح من والده ووظيفة للعمل، ليسارع الأب قبل إنهاء الإبن طلبه للترحيب به، والتعبير له عن حبه الكبير، ويقوم باحتضانه بعدما كان ينتظر عودته إليه بفارغ الصبر.
في الصورة الأخيرة يظهر الإبن مع أبيه على مائدة الطعام، ويَظهر أيضاً مقعد فارغ. ويقول الراوي «جميعنا سنعتقد ان المقعد الفارغ هو للأخ الأكبر، ولكن هو المكان المحجوز لكل فرد لنا في منزل عائلتنا، حتى لو إبتعدنا أو انشغلنا أو أخطأنا».
رمزية القصة ذات الصدى في كل أنحاء العالم، مميّزة بسبب حبكتها البسيطة والتي تلامس كل فرد، وهي ترتبط إلى حد بعيد برحلة الحياة التطوّعية على متن السفينة والتي تحمل في طياتها الأمل والحب والتسامح.
التطوع سمة المكان
وتقول إحدى المتطوعات اللبنانيات على متن السفينة لـ «الراي» إن «التجربة أكثر من رائعة وقد تطوعتُ في وقت سابق حين رست السفينة في العام 2010».
ويذكر أن الطاقم التطوعي فضّل عدم التصريح للإعلام من دون إذن مباشر، وبعضه الآخر فضل الحديث إلى قسم الإعلام مباشرة.
ولكن أحد المتطوعين، وهو من الجنسية الفرنسية، ويرافق السفينة منذ 15 شهراً، تحدث الى «الراي» عن تجربته المميزة والفريدة من نوعها على حد تعبيره.
بدأت قصة الأب المتطوع، إثر جائحة كورونا والضغط النفسي الّذي تركه التباعد الإجتماعي، إذ حينها بدأ يفكر بالعمل التطوعي وبأن معنى الحياة أسمى بكثير من فكرة الوجود بالجسد، وهو منذ 15 شهراً زار على متن هذه السفينة عدداً كبيراً من الدول بينها قبرص وإسبانيا ومونتينغرو والبلقان وغيرها من البلدان.
يذكر أن «logos hope» سبق أن رست في مرفأ بيروت في العام 2010. وكان لها حتى الان محطات في 150 دولة وإقليماً وإستضافت 49 مليون زائر على متنها. وغادرت إلى مصر في 4 يناير وهي بقيادة البريطاني جيمس بيري.