مرشح «براغماتي».. فهل يكون الخيار الثالث؟
بيار الضاهر «على الشاشة» الرئاسية في لبنان
- عقلٌ ماهر صَنَعَ نجوماً في الإعلام والسياسة والفن وبَرَعَ في تَجاوُز المنعطفات الخطرة
... هو الشيخ بيار أو «بيارو» كما يعرفه الأقربون والأصدقاء والزملاء، وهو بيار الضاهر كما يعرفه السياسيون والإعلاميون في لبنان وخارجه. الرجلُ الذي ارتقى بالإعلام الخاص إلى مرتبةٍ أولى يوم كان الإعلامُ الرسمي في لبنان وحده على الساحة موحَّداً أو مُنْقَسِماً في الحرب. وهو الرجل الماكينة الإعلامية الأولى، صانِع النجوم والإعلاميين والسياسيين، صاحب أشهر محطة تلفزيونية قلبتْ مقاييس الإعلام في لبنان والعالم العربي.
إعلاميّ وسياسيّ محنَّك، براغماتي، مثقّف ومطّلع، مُسْتَشْرِفٌ للمستقبلِ الإعلامي وتقنياته وحبْكاته، مُواكِبٌ لكل ما هو جديد وحديث في عالم صناعة الحدَث الإعلامي بكل تقنياته وإتجاهاته، صاحِبُ رؤيةٍ إعلامية قلّ نظيرُها حاول كثيرون تقليدها. خاصَموه أم أحبوه، لا يمكن أن يكون بيار الضاهر رقماً عادياً في مجال الإعلام والسياسة وكلاهما يترافقان معه. وهو الذي خبِر أقسى أنواع المعارك السياسية والإعلامية حين وضعت السلطات الرسمية يدَها على إعلام لبنان.
الرجل الذي يتردّد إسمه اليوم كمرشحٍ رئاسي، سواء ممّن يحبونه أو ممن يعادونه، هو المرشح المفارقة في زمن ألاعيب السياسة، وهو حُكْماً واحد من المرشحين الأكفياء بشخصه ودوره وحضوره وخلفيته، آتياً من بيت عريق وصاحب خبرة متميزة، رافق لبنان في الحرب والسلم والإنهيار وتمكّن ان يعبر بمؤسسته إلى حيث بَرّ الأمان. لكن إسمه اليوم يصبح مرادفاً لمعركةٍ سياسية وهو الذي خاض معارك قضائية وسياسية ليس آخِرها معركته مع «القوات اللبنانية» التي خرجت منها مؤسّسته التلفزيونية. ويصبح كذلك مرادفاً لإبتزازٍ سياسي من حلفاء وخصوم بعدما صار في قلب الحدَث منذ أيام، وإن كان تردَّد اسمه قبل ذلك في صالونات سياسية متفرقة. فأي مرشح رئاسي هو: إعلامي وإداري ناجح، أم سياسي محنّك، أم كلاهما؟
حين أطلّ تلفزيون المؤسسة اللبنانية للارسال للمرة الأولى في 23 أغسطس عام 1985، كان بيار الضاهر إسماً معروفاً في دوائر ضيّقة. إبن الشيخ بطرس الضاهر من بلدة عرجس في قضاء زغرتا، والدته ماري إبنة النائب بطرس الخوري، مهندس من جامعة جنوب كاليفورنيا، وقريب من «القوات اللبنانية». كانت الصورة الأشهر للضاهر يومها وهو إلى جانب رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» إيلي حبيقة وكريم بقرادوني.
مهما كانت خلفيةُ قرار إنشاء تلفزيون خاص، حزب «الكتائب» والرئيس بشير الجميل أو «القوات اللبنانية»، فان الإتفاقَ رسا على بيار الضاهر بسبب خبرته العملية والعلمية حاملاً ماجيستير في الهندسة الصناعية من جامعة جنوب كاليفورنيا. وقد فرضت المؤسسة اللبناينة للإرسال حضورها منذ الساعة الأولى، تلفزيون خاص تابع لتنظيم حزبي، لكنه خرق جدار الحضور السياسي والإعلامي الرسمي المقوْلَب حينَها في إطار ضيق.
ومع سطوع نجم التلفزيون الجديد بألوانه وإضاءته وشاشته المنوّعة ووجوه إعلامية شقّت طريقها وما زالت إلى اليوم من الصف الأول في التلفزيونات والمشهد الإعلامي في لبنان والعالم العربي، أصبح إسم بيار الضاهر محورياً في الحياة الإعلامية. لم يخرق هذا الحضور الإنقلابُ السياسي في «القوات» بعدما سيطر الدكتور سمير جعجع عليها وأبْعد حبيقة. وظل بيار الضاهر إبن المؤسسة ورفيق جعجع وأب التلفزيون الخاص بكل ما للكلمة من معنى. إذ عزز عالم الشاشة الفضية بأقلام ووجوه وفنانين ومسرحيين وإنتاج ضخم وإعلام متحرّك بعيداً عن جمود الشاشة الرسمية، وتمكّن في سنوات قليلة من أن يكون عملاق الساحة الإعلامية، وحَلم الطالعين من الجامعات والمسرح والإذاعات بالإلتحاق بمؤسسته. وإلى اليوم أصبح يملك أرشيفاً مهماً ومجموعةَ برامج تلفزيونية لا يمكن أن تخذل جمهوراً عريضاً رأى فيها متنفساً ومزيجاً من الفن الجدي والسهل والبرامج الإخبارية والأخبار الدقيقة والتحليلات الأساسية وبرامج الألعاب والحظ وسهرات ملكات الجمال والأعياد. كل ذلك في شاشةٍ تواكب أحدث التقنيات والإرسال الذي يغطي لبنان، يوم كانت الترددات تصطدم بعوائق تقنية، ووصل بها إلى كل المغتربين اللبنانيين المنتشرين في أنحاء العالم الذين رَبَطهم صوتها بلبنانهم أياً كان إنتماؤهم، وذلك قبل سنوات من عصر الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الحديثة.
لكن الإستحقاقَ الأهمّ كان متربّصاً بالضاهر بعد إتفاق الطائف واعتقال رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع ومحاكمته، وتطويق السلطة اللبنانية الإعلام الخاص الذي كان بدأ يتوسع ومحاولتها وضع اليد على المؤسسة اللبنانية للإرسال. تمكن الضاهر بمؤازرةٍ من النائب سليمان فرنجية وفريقه من تحييد "LBC". وصارت المؤسسة ملكاً خاصاً بمجلس إدارةٍ يضم مجموعة من المساهمين. وساهم فرنجية في إنتزاع تلفزيون بيار الضاهر من يد السلطة اللبنانية، وتمكّن الضاهر الذي تربطه قرابة عائلية بعيدة مع فرنجية، وهما إبنا زغرتا والقضاء، من أن يعْبر بالمؤسسة في أحلك الظروف وأكثرها رعباً وسودوية في ظل النظام الأمني السوري.
ببراغماتيةٍ واضحة حمى الضاهر المؤسسة والموظفين وجلّهم كانوا من مؤيدي «القوات اللبنانية» ونقَلهم إلى بر الأمان، وأصبح صديقاً لكبار سياسيي المرحلة الساخنة، فكانت المحطة التي يريد الجميع الظهورَ من خلالها، رؤساء جمهورية ورؤساء حكومة ومجلس نيابي ورؤساء أحزاب ونواب ووزراء، وسفراء وفنانين وأدباء وشعراء، تحوّلت المحطة وسيلتهم إلى الإطلالة الدائمة، فيما كان هو يصنع أحداثاً كما نواباً وسياسيين ويقدّم لهم شاشة عريضة وساعات بث تحوّلهم نجوماً.
وفي وقت كان الضاهر يثبت حضوره رقماً صعباً في الحياة الإعلامية والسياسية والرياضية، لا يمكن تجاوز دور رفيقه الدائم صاحب أكبر المؤسسات الإعلانية الراحل أنطوان الشويري الذي عزّز المحطة بالإعلانات والمال والرياضة بدعْمه مثلاً كرة السلة التي حوّلها الإثنان حدثاً على مستوى لبنان كله. وفوق ذلك كان يخوض معركة تحييد المحطة عن ضغوط سياسية ما أن تخْفت حتى تعود بقوة مُحاوِلةً كمّ صوتها. وظل بيار الضاهر أميناً لرسالة الإعلام الخاص، وأميناً على علاقته بـ «القوات» إلى ان حصل الإفتراق الكبير بينه وبينها بعد خروج جعجع من السجن.
معركة الضاهر وجعجع حول المحطة متشعّبة جداً وتفاصيلها كثيرة، خلاصتها ان جعجع يريد إسترجاع المحطة والضاهر متمسك بحقه في المؤسسة التي يملكها باسم جديد: «ال بي سي انترناشيونال». وقد تحولت الدعوى خلافاً سياسياً عميقاً، وتبادلت «القوات» والمحطة الحملات، وإبتعد القواتيون عن الـ LBC وطالبوا بإستردادها وإتهموا الضاهر لاحقاً بأنه أصبح قريباً من «التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل.
شكّلت تظاهرات عام 2005 وعام 2019 مفصليْن في حياة الضاهر والمؤسسة. وقفت «ال بي سي» من دون تردد إلى جانب تظاهرات 14 مارس 2005 التي عُرفت بـ«إنتفاضة الإستقلال» وضدّ عمليات الإغتيال وبينها ما تعرضت له الإعلامية على المحطة مي شدياق من محاولة إغتيال نجت منها بإعجوبة، ودافعت عن الشهداء والجرحى. ولم يكن الضاهر متردّداً في حسم موقفه وموقف المحطة، إلى جانب ثورة الأرز، تماماً كما فعل لاحقاً في تظاهرات 17 أكتوبر 2019، وبعد إنفجار مرفأ بيروت وما زال، وفي معارك الحريات والدفاع عن الصحافة بكل وسائلها.
وهنا لا يمكن الفصل بين ما تقوم به المحطة - ولو أنه من الزاوية الإعلامية - وبين بيار الضاهر، فالأخير هو المؤسسة والمتورّط فيها حتى العظْم بتفاصيلها وحيثياتها وتركيبتها وموظّفيها الذين يَعرفهم واحداً واحداً ويقف إلى جانبهم عند الأزمات ولا يتخلى عنهم إلا عند الإفتراق الضروري. وفوق كل ذلك بقيَ الضاهر سياسياً بالمعنى الحرفي للكلمة، مطلع على الوضع بأدق تفاصيله ومُتابِع لأحدث التكنولوجيات، يراكم خبرات على خبرات في لبنان والعالم العربي والغربي، ولا يَخرج من لبنان إلا ليعود إليه، ناقلاً المؤسسة من مكان إلى مكان فتصبح على مدى سنوات رقماً صعباً في زمن السهولة، يخاصمها كثيرون ويقاطعها كثيرون ويعودون إليها.
حين تزوّج نجل بيار الضاهر جوي من داليا ابنة وليد جنبلاط، حُكي الكثير عن المصاهرة الدرزية - المارونية، وحين تزوّجت ابنة الضاهر من رئيس بلدية زغرتا – اهدن قيل كلامٌ عن مصاهرة زغرتاوية. ففي لبنان كل العلاقات العائلية تلعب دوراً في الحياة السياسية والعامة. ومع بدء الفراغ الرئاسي تردّد كلامٌ عن إحتمال طرح إسم الضاهر مرشّحاً توافقياً، وجاءت مصاهرته جنبلاط لتضع إسمه على لائحة الذين قد يدعمهم رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وأتى اللقاء الأخير بين جنبلاط وباسيل في بيت الضاهر ليضع علامات إستفهام حول إحتمال ان يكون باسيل داعماً لمثل هذا الخيار. فبدأت التساؤلات حول مصير هذا الترشيح في حين تقف «القوات اللبنانية» موقفاً معارضاً في شكلٍ كلي، وأوساطها تحدثت سابقاً عن إبتزازٍ لتخييرها بين خياريْ فرنجية أو الضاهر.
يمكن ان يكون الضاهر الإسم الوحيد خارج التركيبات التقليدية بين سياسيين معروفين ومرشّحين بارزين. لكنه الإسم الذي يخلط بين السياسة والإعلام بين التقليد والحداثة وبين صناعة الحدث وتغطيته، يعرف الجميعَ ويعرفه الجميع، يعرف الخلفيات ويعرف ما وراء الكواليس، وهو غالباً ما يخرج من فضاء الإعلام إلى فضاء السياسة من دون تردّد. وليس سهلاً أن يَعْبر كل الأزمات بخطواتٍ واثقة وينجح حيث فشل الآخَرون.