قيم ومبادئ

غالب ومغلوب

تصغير
تكبير

ذكرَ مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون في كتابه للتاريخ القاعدة المشهورة عنه «المغلوب دائم التأثر بأخلاق وأفعال الغالب»، ثم شرع في توضيح مراده بأن الأمم المغلوبة تسعى لا شعورياً بكل مكوناتها لاتباع وتقليد الأمم الغالبة سواء في لباسها أو مشيتها أو كلامها وحركاتها.

ولذلك تنبّه ابن خلدون مقدماً بسقوط بلاد الأندلس حيث رأى من أخلاق الأندلسيين تشبهاً بعادات غير المسلمين وحباً لطريقتهم.

وهذه القاعدة في التشبّه وُجدت في بداية الإسلام لما فتح المسلمون الأوائل بلاد فارس والشام والهند والسند... فسادت أخلاق العرب والمسلمين الذين فتحوا هذه البلاد حيث تعلّموا اللغة العربية بسرعة، فإذا هم يتكلّمون اللغة العربية لغة العلم والحضارة الإنسانية والكتب والمؤلفات والشعر والأدب كلها في اللغة العربية، حتى بلغوا الذروة فأصبح علماء العربية مثل سيبويه ونفطويه وغيرهما من الأعاجم، بل حتى علم الحديث فكان الإمام البخاري، وبرز بالفقه الإمام أبوحنيفة وهو فارسي، ولكن دوام الحال من المُحال حيث تغيّرت الأوضاع، فأصبح المسلمون اليوم في بلاد الهند وباكستان وتركيا، لا يعرفون اللغة العربية إلّا القليل منهم، حيث تأثرت هذه الأمم بأخلاق ولغات غيرهم.

وفي المقابل، لما قامت دولة العثمانيين قبل 500 عام تقريباً توسّعت رقعة السلاطين العثمانيين وانتشرت معها اللغة التركية والعادات التركية في معظم بلاد بلغاريا ودول آسيا الوسطى، ولكن بعد سقوط الدولة العثمانية واتفاقية سايكس بيكو في تقاسم تركة الرجل المريض، وقع المسلمون تحت سيطرة أمم الغرب، وتولوا مقاليد الأمور فنشروا ثقافتهم وعلومهم وأخلاقهم، وبقيت هذه الأخلاق والعادات والتقاليد حتى بعد الاستقلال.

ومن هذه الأفكار الدخيلة على الإسلام مثلاً ما قد شاع عند بعض المسلمين، وهي أن الحق يُمكن أن يتعدد، وأن الناس أحرار في ما يعتقدون وفي ما يدينون! وهذه لوثة فكرية من لوثات أوروبا... ولكنها أصبحت اليوم عنواناً للتحضر والرقي في التفكير!

ثم جاءت النخب الفكرية وأصحاب الصحف وعمداء الجامعات الذين زرعوا فينا هذا الفكر باسم الحرية وحرية الرأي، وحرية التعبير، فقالوا الإسلام كبير ويسع الجميع! وهنا ضاعت الصقلة وضاع الأمر، فبدأ تزيين التبرج ومحاربة الحجاب، كما زيّنوا لنا معاقرة الخمور وسموها مشروبات روحية، بل حتى روّجوا لنا المثلية والجنس الثالث، كما أن مما زاد الطين بلة بعض الإسلاميين السياسيين والمنظرين الذين فُتنوا بالحرية المطلقة في أوروبا فأصبحوا يقولون: ما شاء الله الحرية في بلاد الغرب، أما في الشرق الأوسط فالحرية فيها حد محدود!

ولو رجعنا قليلاً إلى الوراء وتحديداً قبل النفط في الكويت والرعيل الأول، لم تكن عندهم هذه الفوضى ولا هذا الترف الفكري والسلوكي، ولكن عندهم حق وباطل وكانت الأمور واضحة عندهم، ولهذا صلُحت جميع أمورنا العلمية والعملية لأنها انقادت لأهل العقول الراجحة وسُراة المجتمع، فاستقرت الثوابت واستقامت الحياة.

ولكن، لما جاءنا هذا الفكر الجديد الفاسد من هذا الفضاء المفتوح أصبح الكل على خير كما زعموا، وأصبح الكل له وجهة نظر يجب أن تُحترم، وأصبح الحق يتعدد فضاعت معالم دين الدولة الإسلام.

فلذلك لابد أن نميّز الأمور، ولابد أن يكون هناك حق وباطل، وألا تضيع هويتنا أكثر مما هي ضائعة اليوم، وإذا ضاعت هوية الأجيال القادمة بسبب إهمالنا وتقصيرنا فمَنْ سيُعيدها سيرتها الأولى؟!

فهل نعي هذا؟

وحينئذ نقول لا غالب ولا مغلوب فالكل سواء.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي