بعد تلميحات ماكرون وشولتس الديبلوماسية البرّاقة
هل يقع بوتين في... الفخ الغربي؟
يبعث القادة الأوروبيون رسائل متناقضة الى روسيا بهدف وقف الحرب من موقع المتساوي وليس الضعيف عبر تلويحهم بإمكان عودة العلاقات التجارية والاقتصادية ورفع العقوبات عنها بعد انتهاء الحرب، في محاولةٍ إيحائية بأن الأمور ستعود إلى طبيعتها وكأن شيئاً لم يكن.
فهل يتلقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدعوة الأوروبية للتوجه نحو المفاوضات الديبلوماسية بغية إيجاد مخرج يتيح إنهاء الحرب الأوكرانية بين روسيا والغرب بزعامة أميركا، ويقع تالياً في فخ الإغراءات الغربية مرة أخرى، في وقت ترتفع الأصوات في أوروبا تحت وطأة أزمة طاقة كبيرة في الشتاء وفراغ مستودعاتها من الذخائر الحربية، وسط خلافات حادة بين دولها وازدياد حدة التضخم في القارة العجوز؟
في نهاية قمة مجموعة العشرين في بالي - اندونيسيا، شدد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على «ضرورة إعادة فتح المفاوضات وأننا سنحقق على الأرجح تقدماً وسيكون هناك إجماع أكبر»، مؤكداً انه «ناقش مسألة عودة أوكرانيا وروسيا إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكذلك مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ومع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الصيني شي جينبينغ على هامش اجتماعات» قمة بالي.
وقال المستشار أولاف شولتس إن التعاون الاقتصادي بين ألمانيا وروسيا يمكن أن يكون ممكناً مرة أخرى إذا أنهى الكرملين حربه.
وكان شولتس كرر في خطابات سابقة، ان «الغرب لن يرفع العقوبات المفروضة على روسيا رداً على غزوها لأوكرانيا حتى تسحب موسكو قواتها وتتوصل إلى اتفاق سلام مع كييف».
وأعلن أمام اللجنة الألمانية للعلاقات الاقتصادية في أوروبا الشرقية انه «في الوقت الحالي، يتم تقليص العلاقات بيننا وبينها وتقليصها»، في إشارة إلى العقوبات الغربية على روسيا التي ألغت التجارة والاستثمار الثنائي.
وفي اجتماع مع الرئيس الصيني، حضّ المستشار، بكين على «ممارسة نفوذها على روسيا».
من الواضح ان أوروبا هي الحلقة الأضعف في الحرب التي تدور بالوكالة.
وتستغل الولايات المتحدة قلة التوافق بين صفوف الأوروبيين من كلا معسكري دول أوروبا الشرقية والغربية التي لا يريد بعضها اتباع السياسة الأميركية بمعاداة موسكو بسبب المصادر الطبيعية المهمة التي يستفيد منها الأوروبيون والتي تشكل العمود الفقري للصناعة الغربية.
بالإضافة إلى ذلك، فان روسيا هي الأقرب جغرافياً من أوروبا وحاربت النازية كتفاً إلى كتف، وأنشأت خطوطاً عنكبوتية تجارية مع القارة العجوز. إلا ان النزعة الأنغلو - ساكسونية وترسيخ العقلية الاستعمارية لدى الأوروبيين تجعلهم يتمترسون داخل الملعب الأميركي رغم فداحة خسارتهم.
وعلى الرغم من حديث فرنسا وألمانيا عن السلام وإمكان وقف الحرب والبدء بالمفاوضات، إلا أنهما أول مَن يقدّم الدعم العسكري لأوكرانيا ويعززان حلف «الناتو» في شرق أوروبا وينخرطان في لجان خاصة بالبحث عن «جرائم الحرب» ويطالبان بإنشاء محكمة خاصة لمحاسبة روسيا.
إذاً الموقف الأميركي غير المتأرجح في شأن ضرورة استمرار الحرب هو الحاكِم في القارة الأوروبية، وهو الذي يحدد الإستراتيجية ويقودها وينفّذها مع حلفائه الغربيين.
وجلّ ما يفعله ماكرون وشولتس، هو تَبادُل الأدوار وبعث رسائل اطمئنان إلى روسيا بأنهما مستعدان للحوار الجدي، خصوصاً عندما أعلن الرئيس الفرنسي «ضرورة تقديم ضمانات أمنية»، وهو المطلب الرئيسي لموسكو قبل بدء الحرب.
ولم يكن مستغرَباً خروج الأصوات من أوكرانيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومن الرئيس جو بايدن نفسه بأن مباحثات السلام هي الحل إلا أن بوتين غير مستعدّ لها.
وهي دعوة لدغدغة غرور بوتين واللعب على رغبته الدائمة على مدى أعوام بإبقاء روسيا مع الغرب.
والهدف من ذلك هو تجنب الهزيمة النكراء التي سيُمنى بها الغرب مجتمعاً إذا استسلمت أوكرانيا للمفاوضات من دون شروط أو وافقت على إبقاء أكثر من 100 ألف كيلومتر مربع من أراضيها تحت الاحتلال، بما فيها شبه جزيرة القرم، حتى من دون الاعتراف بالسيادة الروسية على تلك الاراضي.
لكن ماذا عن المقلب الروسي؟ هل يستعدّ بوتين للاستدارة نحو الديبلوماسية وأخذ المبادرة الأوروبية الكلامية على محمل الجد؟ الجواب هو طبعاً، لا، والدلائل على ذلك عدة.
فمنذ عام 1991، وعد رئيسان أميركيان نظراءهما الروس بأن «الناتو» لن يتوسع لأكثر من 12 عضواً.
إلا أن الرئيس بيل كلينتون أقرّ في مقالة نشرها بأنه أَمَرَ بتوسيع حلف شمال الأطلسي رغم الوعود التي قطعها عن طريق وزير خارجيته إلى الرئيس بوريس يلتسين ليصل عدد أعضاء الحلف إلى 30.
وفي مقالة نشرت أخيراً في مجلة «تسانيت» الألمانية للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركيل، أقرت فيها بأن اتفاقيْ مينسك 1 و2 اللذين رعتْهما برلين وباريس «هدفا لكسب الوقت وإعطاء أوكرانيا السنوات اللازمة لتسليح نفسها وبناء دفاعاتها والتحضر للحرب لأن روسيا كانت في موقع تستطيع احتلال أوكرانيا من دون أي مقاومة».
وردّ بوتين بأنه «يشعر بالخيانة وخيبة الأمل» من تصريحات ميركل.
ولم تكن برلين وحدها في موقع «اللعبة المزدوجة» بل شاركتْها باريس و«الناتو» لشراء الوقت الكافي لبناء جيشٍ أوكراني مُحارِب لاستعادة دونباس وجزيرة القرم أو على الأقل لاستنزاف روسيا في أرض المعركة التي لا بد منها.
وقد نجحت أميركا في إحضار «الناتو» إلى أوكرانيا - وليس العكس - ليتدرب الجيش الأوكراني على أسلحة الغرب وتكتيكاته العسكرية إستعداداً ليوم المعركة التي يبدو انه لا بد منها.
إلا أن تصريح ميركل لن يغيّر في الواقع شيئاً على أرض المعركة. إذ قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بسكوف ان «العلاقة مع الغرب وصلت إلى مرحلة المواجهة».
وأكد نائب رئيس الأمن القومي الروسي ديمتري مدفيديف ان بلاده «كثفت من إنتاج أقوى وسائل التدمير لديها وأن أعداء روسيا موجودون في أوروبا وأميركا واليابان وكندا ونيوزيلندا».
إذاً عاد العالم إلى مرحلة «الحرب الباردة» ولكن بأسلحة أكثر فتْكاً وانعدام للثقة التام وانقسام العالم إلى جزء يمثّل الغرب، ويصل إلى نحو 11 في المئة من سكان العالم، وجزء آخر يمثل ثلثيْ السكان لا يتوافق مع السياسة الأميركية ويريد التحرُّر من الأحادية والسيطرة الأميركية على العالم.
ولا تجد موسكو نفسها في موقع ضعف. إذ استفاد الجيش الروسي، بتنظيف نفسه والتعلّم من المعركة الشرسة مع «الناتو» وميادينها الإلكترونية المتطورة وحرب المسيَّرات والاستخبارات والضربات السيبيرية، وأن الحرب الكلاسيكية لم تعد التكتيك الحربي الأفضل اتباعه في الحروب الجديدة وأنه يتوجب عليه تطوير نفسه بسرعة.
كما تعلّمت روسيا درساً لن تنساه بأن أميركا لن تكون يوماً صديقة موثوق بوعودها، كما اعتقد الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشيف ويلتسين وحتى بوتين لأعوام عدة.
وتجد روسيا نفسها في موقع قوي في أوكرانيا لأنها لم تستخدم كامل قوتها، وهي تتقدم في دونباس وتضرب البنى التحتية بشراسة، وتسعى لتعود أوكرانيا إلى العصر الحجري من دون بنى تحتية ولا كهرباء.
ولا تتردد موسكو بضرب أهداف في مدن بعيدة عن الاشتباك المباشر (مثل اوديسا) ما يرفع العبء المادي على الغرب لإصلاح ما دُمّر.
يبدو ان روسيا لا تثق بفرنسا أو ألمانيا أبداً أو بالإشارات الغربية ولا هي مستعجلة لإنهاء الحرب قبل تحقيق أهدافها. حتى أن غالبية الشعب الروسي أصبحت أكثر انحيازاً للحرب وتتجه للتصويت إلى «المتطرّفين» في الانتخابات المقبلة إذا أوقف بوتين الحرب باكراً.
إنها حرب عض أصابع تضر بأوروبا - وليس بأميركا - إذا طال أمدها.
ويبدو أن روسيا لا تريد المفاوضات الديبلوماسية إلا بشروطها وهي تنظر كيف يغرق حلفاء أميركا في أوروبا بالتضخم وأسعار الطاقة المرتفعة وغير المتوافرة بسهولة وكيف تدبّ الخلافات في ما بينهم في اجتماعات بروكسيل حول تحديد أسعار الطاقة التي يحتاجونها بشدة.
وستنتظر موسكو إلى أن يستوي العنقود الغربي ليدفع بأوكرانيا - من دون مكتسبات بل بخسائر بشرية واقتصادية هائلة - إلى مفاوضات لا بد منها في النهاية ويحدّد شروطَها الكرملين وليس كييف أو بروكسيل ولا حتى واشنطن.