مشاهدات

التكنولوجيا وانتهاك الخصوصية

تصغير
تكبير

وفرت لنا التكنولوجيا الحديثة سبلاً عديدة من الراحة لم يكن الجيل السابق ليتخيّل ما نحن عليه الآن، سواءً من توفير الجهد العقلي أو الجهد العضلي وغيرها من المزايا التي لا تعد ولا تحصى، إلا أن أدوات التكنولوجيا هذه ساهمت في تفكك المنظومة الأخلاقية وتمزيق الروابط الاجتماعية في المجتمع، ونحن في زمن سرعة تدفق المعلومات الهائلة في الفضاء الإلكتروني، حيث من السهل نشرُ الفضيحة وبثها في كل الاتجاهات في طرفة عين، فما هي إلا ضغطة زر وإذا بالتسريبات تعم الأرض كلها عبر القنوات والمواقع وشبكات التواصل الإلكترونية.

إننا أمام مرض يصيب الأخلاق النبيلة فى مقتل، داء انتشر في المجتمع كالنار في الهشيم، فثمة أناس لا همّ ولا شغل لهم إلا تتبع عورات الناس، وتصيّد زلاتهم، وعَدّ هفواتهم، يتفننون في المراقبة والرصد وفضح الآخرين، بل يفرحون بانكشاف ما ستر، والمسارعة في إبداء ما أخفي!

لا لمصلحة تتحقق، ولا لمفسدة تتقى، وإنما لغرض الفتنة والفضيحة وكشف الأسرار، إما بدافع الفضول وحب الاستطلاع، أو بدافع الحسد والحقد وإرادة الانتقام، أو طمعاً في مكسب مادي زهيد.

فهؤلاء المتربصون قلوبهم قاسية، وبالتأكيد يعانون من الانحراف في التربية والأخلاق ويحتاجون إلى من يوجههم، ولذلك فإن الأديان السماوية والأعراف حاربت هذه الصفات الذميمة وجعلت الأولوية للفضائل والقيم.

إنّ استخدام التقدم التقني في تتبع أسرار الناس أحدث صدعاً قوياً في سلوكيات الآخرين يأخذ بالألباب إلى منعطف من الذعر والفزع، حيث تتابعت حلقات التشهير بأعراض الناس واستغلال صورهم وتتبع عوراتهم بآلات التصوير المتنوعة، حتى نفرت الأفئدة منها خوفاً وقلقاً، فأصبحت طرق تتبع خفايا الناس في ظل القفزة التقنية الحديثة هائلة ورهيبة، وبانت تبعياتها واضحة للعيان فأدت إلى فساد علاقات أفراد المجتمع وتمزيق لحمتهم.

إن التجسس مظهر من مظاهر سوء الظن، وأثر من آثاره، فهو متولّد عن صفة مذمومة سيئة وقد نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن التجسس في آية محكمة وصريحة تدلُّ على حرمة هذا الفعل المشين، والخصلة المذمومة، فقال تبارك وتعالى:«وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعضُكُم بَعضًا».

وذلك لأنَّ التجسس صورة من صور ضعف الإيمان، وعدم التحلي بالإنسانية وقلة الأخلاق النبيلة، وهو يدلُّ على دناءة النفس، وضعف همَّتها، وانشغالها بالتافه من الأمور.

أصبحت هذه الأفعال سبيل إلى قطع الصلات، وتقويض العلاقات، وظهور العداء بين الأحبة، وبثّ الفرقة بين الإخوان، لتنهار القدوات، وتصغر في الأعين القامات، ويؤدي إلى فساد الحياة فتصبح مليئة بالشكوك والتخوفات، فلا يأمن الإنسان على خصوصياته من أن تنكشف أو تظهر للناس، بل يعيش المرء في حالة من الشك والقلق والحيرة، بعد أن كانت ضمائرهم خالصة طيبة.

إنّ في حياة كل إنسان منّا منطقة محرمة لا يجوز للناس أن يقتحموها، وهي منطقة حياته الخاصة، لأن للإنسان الحق في حياة خاصة يحتفظ بها لنفسه.

ونظراً للتطور التكنولوجي الذي طغى على العالم أصبحت المكالمات الهاتفية الشخصية عرضة للالتقاط والتسجيل ومن ثم الإفشاء، خاصة عندما نجد أن المكالمات التي نجريها مع الآخرين بثقة قد تم تسجيلها وحفظ تفاصيلها لسبب ما!

والسؤال هنا هو حول كيفية الردع الاجتماعي لكل من يتجرأ على إلحاق الأذى بالآخرين عن طريق بث صور وفيديوهات وتسجيلات صوتية؟

هل تسجيل المكالمات التلفونية يقع فاعله تحت طائلة القانون؟

هل يعد تسجيل المكالمات التلفونية جريمة؟

هل يعتبر جريمة إن تم بث هذه الأحاديث المسجلة على شبكة الانترنت؟

من البدهي أن المكالمات التي تسجل تتم بعد الحصول على إذن قضائي، وذلك لتثبيت جريمة ما مثل الرشوة أو القتل أو الخطف، بينما المكالمة التلفونية العامة والخاصة المسجلة خلسة دون الحصول على إذن قضائي لن تكون دليلاً ولن تعتد بها أمام المحاكم.

الدستور يكفل حرية الرأي وحرية المراسلات والمحادثات وكل حريات الأفراد، والاعتداء على هذه الحريات يستوجب بالمقام الأول معاقبة المعتدي، وكذلك حظر القانون التنصت على المحادثات التلفونية، وذلك لأنها من الحريات الشخصية للأفراد فلا يجوز لأي شخص مهما كان أن يعتدي على هذه الحرية ويقوم بالتنصت أو التسجيل ومن ثم التسريب. (تنتهي حدود حرية الشخص عند حدود حرية الآخرين).

ما نشاهده اليوم عكس ما ينص عليه القانون... ان تم تسجيل مكالمة دون إذن قضائي أو رضا المجني عليه، فإن هذه التسجيلات لا يعتد بها قانوناً ولا ينتج عنه أي أثر قانوني أمام المحكمة ولا تعرّض الذي قام بتسجيلها للمساءلة القانونية.

والأمر الخطير عندما يقوم المسؤول عن قطاع ما في مؤسسات الدولة باتخاد قرار أحادي بفصل الموظف بسبب هذه التسريبات دون اتباع أبجديات العمل السياسي، وهي اتباع البروتوكول القانوني بالتحقيق الداخلي مع الموظف وإيقافه عن العمل موقتاً لحين انتهاء التحقيق معه بخصوص ما نشر كإجراء قانوني.

وإضافة إلى ذلك ألا يعتبر الأخذ بهذه التسجيلات قد يعني إضافة الشرعية لهذه الظاهرة المقيتة ومن ثم لن يكون أي موظف بمأمن من خطر التسجيلات ومن ثم النشر.

وهناك شواهد كثيرة سابقة تكررت عن تسريبات وتسجيلات طالت قطاعات عدة في الدولة.

والإشكالية الكبرى في هذا الأمر هو قيام هذا المتضرر باللجوء للقضاء، ثم ليكون الحكم النهائي لصالحه - فمن يتحمل - في هذه الحالة - قيمة التعويضات المالية والمعنوية المترتبة على هذا الضرر؟ هل هو المسؤول الذي اتخذ القرار؟ أم جهة العمل (الدولة)!

وبالتالي كل ذلك يؤدي إلى فساد الحياة فتصبح مليئة بالشكوك والتخوفات، فلا يأمن الإنسان على خصوصياته من أن تنكشف أو تظهر للناس، بل يعيش المرء في حالة من الشك والقلق الذي لا ينتهي.

وللأسف انزلق بعض أعضاء مجلس الأمة إلى ترسيخ هذه الظواهر السلبية الدخيلة على مجتمعنا بدءاً من تصوير الأوراق الرسمية، وتسجيل بعض الجلسات السرية، أو تسجيل بعض الكلمات النابية والمغالطات غير المستحسنة التي يتفوه بها البعض ومن ثم تسريبها في وسائل التواصل.

وأتساءل وأود مشاركة القراء للإدلاء بآرائهم، هل أصبح مع ثورة الاتصالات والتطور التكنولوجي تسجيل المكالمات والتجسس على التلفونات أو غيرها من وسائل الاتصال الأخرى من الأمور المقبول حدوثها، أو أن الأصل العام يعد هذا الفعل جريمة يعاقب عليها القانون، وذلك لأن الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة سواء كان بالتنصت على المكالمات التلفونية أو تسجيلها، وكذلك التقاط الصور ونشرها يعد تعدياً صارخاً على نص دستوري يصون ويحمي الحياة الخاصة لكل إنسان.

كما تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال العامة بأشكالها كافة. والدين حصّن الفرد من ان يكون عرضة لهتك الأسرار.

وقال سبحانه تعالى: «وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ».

كفانا فرقة وخلافات وتناحراً بين الأفراد والأحزاب والتيارات فإن ذلك يشكّل خطراً كبيراً على تماسك ووحدة المجتمع.

فهناك الكثير من الناس تفاجأوا بأشخاص كانوا يعتقدون أنهم أوفياء ثم تبين أنهم عكس ذلك.

اللهمّ باعد بيننا وبين القاسية قلوبهم، وقرّب إلينا يا الله مَن يحفظ الود.

اللهمّ احفظ الكويت آمنة مطمئنة، والحمدلله رب العالمين.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي