من الخميس إلى الخميس

استمعوا للمريض

تصغير
تكبير

من حق المريض أن يجد من يستمع إليه، فالإنسان ليس آلة صمّاء يمكن أن يتم فحصه بآلة، أو يتم تبديل قطع غياره ليعود للعمل من جديد، الإنسان خليطٌ من عناصر ثلاثة جسد، وروح، ونفس، فإذا كانت الروح من أمر ربي كما قال تعالى: «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» سورة الإسراء آية 85، إذا كانت الروح كذلك فإن الجسد والنفس صنعة الله تعالى التي جعلهما في متناول فهم الإنسان.

فالطبيب مهما كان تخصصه ليس مسؤولاً عن جسد المريض فحسب، وإلا سيجد نفسه يتعامل مع ثُلت الإنسان، ولن ينال به درجة التفوق مهما كان ماهراً، الطبيب الناجع هو الذي يتعامل مع ما تلَفَ فيُصلحه وما يَمرضُ فيُعالجه، وفي حالة الإنسان لا يمرض ولا يتعب إلا الجسد والنفس، {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها}.

من هنا حرص حكماء الطب على الاستماع للمريض؛ وجعلوا شكوى المريض هي أهم وأول خطوة يقوم بها الطبيب حين يلتقي مريضه للمرة الأولى، فالاستماع له لا يعني فقط أخذ تاريخ علتّه؛ بل يعني التأنّي في فهم الشكوى وملابساتها مما يُمّكن الطبيب من إدراك الروابط النفسية للعلّة ومن ثم الانتقال إلى فحص الجسد وسبر أغواره بالتحاليل والصور للوصول إلى الحكم النهائي، وكم مريضٍ كانت عِلتّهُ في نفسه ولولا التأنّي بالاستماع لكان التشخيص خاطئاً وقد يؤدي إلى ما لا تٌحمد عُقباه.

اليوم، وللأسف، نجد بعض الأطباء يحيطون بجسد المريض من كل جانب، فحوصات وتحاليل ومواعيد أشعة، وتجد المرضى يدورون بين أقسام المستشفيات، فهناك تحاليل دم وهنا صور أشعة وربما يصل المريض إلى تحاليل تقتحم جسده أو تقتطِعَ جزءاً منه، وفي النهاية قد تُكتشف العلّة؛ وقد تنتهي رحلة العذاب تلك إلى علّة نفسية لو التقطها الطبيب في أول الطريق لوفّر على المريض وعلى الخدمات الصحية الكثير من الإرهاق والجهد والخسائر.

أيها الأطباء الأعزاء، كلكم يعلم أن النفس لها تأثير مباشر على أجسادنا، تأثير إيجابي تجعلُ الجسدَ أجملَ وأقوى وأصحّ مما هو عليه، وتأثير سلبي قد يَشّلُ الجسد وقد يُرهقهُ وقد يُصيبه بألم لا تنفع معه العقاقير، ولولا رحمة الله بنا ورفع النفس عنا وقت نومنا لكان الكثير منا لا يرتاح حتى في نومه {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى الى أجل مسمى ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} الزمر43.

من أجل ذلك لابد من إعطاء عِلةُ النفس حقّها، لابد من الاستماع للمريض، الاستماع إليه في صبر وفي جو هادئ، الاستماع إليه لأنه جاء للطبيب ليشتكي إليه عِلتَهُ، فلنستمع إليه فكم عِلةٍ أنهاها الاستماع؛ وكم مريض طالت معاناته لأنه لم يجد من يستمع إليه.

في عام 2019، كان شخص واحد من كل 8 أشخاص، أو 970 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، مصابين باضطراب نفسي، وكان القلق والاكتئاب الشكلين الأكثر شيوعاً من تلك الاضطرابات (تقرير منظمة الصحة العالمية جنيف 2022)، وقد أقرّت خطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013-2030 الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، أقرّت بأهمية دور الصحة النفسية في تحقيق الصحة لجميع الناس.

الصحة النفسية رغم أهميتها لم تجد حتى الآن الاهتمام الكامل بها من جميع الأطباء، ومازال البعض من أصحاب القرار الطبي غير متفهمين لضرورة الاهتمام بالصحة النفسية في كل موقع من مواقع العلاج؛ وليس احتكارها في مستشفى واحد، في كل عيادة وفي كل جناح لابد أن تكون هناك غرفة للاستماع ومناقشة المريض (COUNCILLING ROOM)، هذا هو الطب الحقيقي، محوره الإنسان ومنتهاه الإنسان، كلُّ الإنسان بجسده ونفسه.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي