مشاهدات
وصبر على المقدور
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
إن الصَّبر يمثل القيمة الإنسانية التي ترتفع بالإنسان إلى مواقع ينال فيها رضا الله، فالمولى عزّ وجلّ يريد للإنسان أن يكون قوياً أمام التحدّيات وألا يسقط أمام أي أزمة يتعرّض لها، بل المطلوب أن يكون صلباً متوازناً فالصبر من الإيمان.
قد يملك الإنسان الكثير من الأموال والخيرات العديدة، وقد تكون حياته مستقرة بنعم الله عليه، سواء من ذرية أو جاه أو منصب أو مال ومع ذلك قد يواجه من الابتلاءات والأزمات الكثير، وقد ينزل به مكروه في ماله وأهله وولده، فلا طريق أمامه سوى السيطرة على مشاعره وسلوكه، والتصرف بعقلانية تجعله محطّ رضا الله، فيكون العبد الصابر الشاكر الواثق بربّه ورحمته، والمسلّم لقضائه تسليم الموقنين بعفوه ورحمته.
المولى عزّ وجلّ خلقَ (الموتَ والحياةَ) ليبلوكم وكذلك ليمتحن عباده ففي ساحة الابتلاءات يكون الاختبار الحقيقي للإنسان.
وأكثر مَن يتعرّض للبلاء هم الأنبياء فهم لنا أُسوة حسنة، ورحمة الله سبحانه متوقفة على الصبر والاستغفار، والله يحب الصّابرين والمستغفرين.
هناك آيات عديدة نزلت لتقص علينا صبر أنبياء الله المرسلين عليهم السلام.
قال تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وعذاب».
هذه الآية تتكلّم عن نبي الله أَيُّوبَ (عليه السلام)، حيث تشير بصورة خفيّة إلى الابتلاءات الشديدة التي لا تُطاق، وإلى الألم والعذاب الذي مسّه.
كان (أَيُّوبَ)، عليه السلام، نموذجاً حيّاً للصبر والاستقامة، وهذا يعطي للموحدين إلى يوم القيامة درساً في مقاومة مشاكل وصعاب الحياة، كما وضّحت العاقبة المحمودة للصبر والصابرين.
فكان نبي الله مثال الصبر وهو قدوة نقتدي بها، ويضرب الله المثل في صبر أيوب للإنسانية جمعاء وفي جميع الديانات فهو مثال الصبر الجميل.
منّ الله على (أيوب)، عليه السلام، بكل الخيرات، فكان يملك أموالاً كثيرة، ومزارع وبساتين، وكذلك المواشي والإبل، ورزقه الله بالبنين زينة الحياة الدنيا، ذُكِر بأن أبناءه 8 ذكور و8 إناث وكان شاكراً لله صباحاً ومساءً وكان (عليه السلام) ملاذاً وملجأً للناس جميعاً وبيته قِبلة للفقراء لما علموا عنه أنه يجود بما لديه ولا يمنعهم من ماله شيئاً، ولا يطيق أن يرى فقيراً بائساً، هكذا عاش أَيُّوبَ (عليه السلام) شاكراً لله، يدعو الناس إلى الخير وينهاهم عن الشر، ينفق ما لديه على الفقراء والمساكين وبلغ كرمه (عليه السلام) أنه يطعم الفقراء والمحتاجين قبل أن يتناول طعامه.
إلى أن جاءه الامتحان الإلهي، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، وواجه عليه السلام هذا الابتلاء بالصبر العظيم، والرضا الكبير وعدم الجزع والهلع والغضب والسخط.
كان الشياطين يصعدون إلى السماء ليتجسّسوا ويسترقّوا السمع من السماوات في ذلك الزمان، ثم منعوا من الصعود عند ولادة النبي المصطفى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- كرامة له، وان حاولوا الصعود تصيبهم شهبٌ من السماء فتحرقهم.
«وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ* وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ* إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ».
وكان الملائكة يتباهون بعبدالله أيوب وعبادته واستغفاره وشكره لله، ما أثار الحسد في إبليس لعنه الله، فقال لله إن أيوب يواظب على الشكر والاستغفار بسبب النعم والرخاء الذي هو فيه، فلو حرمته منها لما شكرك أبداً، وقال سلطني عليه وعلى أبنائه وأمواله وسترى بأنه لن يصبر ولن يشكر نعمك أبداً عند البلاء.
فأجاز له الله ذلك، ولكن لم يجز له التسلّط على عقله وقلبه.
وهنا بدأ الشيطان بالقضاء على المزارع والماشية، وبذلك فقد أيوب ثروته ومع ذلك ظلّ شاكراً وحامداً لله، فتسلّط الشيطان على أبنائه وماتوا جميعاً، (هناك مَن يفقد ابناً فيجزع عليه) ومع ذلك البلاء والمصيبة الكبرى ظلّ شاكراً وحامداً ومستغفراً للمولى عز وجل، فتسلط الشيطان على بدن أيوب وأصابه الكثير من القروح ولم يعد قادراً على الحركة، ومع ذلك ظلّ شاكراً وحامداً لله.
وكانت زوجته (رحمة) صابرة معه، أهَّلها الله لأن تكون الزوجة التقية النقية القادرة على تحمل الابتلاء في الزوج والمال والولد.
فما شكت وما جزعت وما قطعت العبادة، راضية بما قدره الله لها، إنها الصابرة العفيفة الخدومة التي اهتمت بزوجها طوال فترة مرضه، وكانت تذهب إلى المدينة لتعمل في المنازل لتوافر طعاماً لزوجها وبعد فترة لم يسمحوا لها بالعمل خوفاً من نقل العدوى إليهم؟
فقالت له زوجته لو دعوت الله لاستجاب لك، فالله يقبل دعوة انبيائه.
فقال لها كم لبثنا في الرخاء؟
فقالت 70 عاماً.
فقال: ويحك كنت بالرخاء 70 عاماً الا أصبر مثلها.
وبقي بذلك الوضع لمدة 18عاماً صابراً واثقاً من الله، مطمئناً بقضاء الله وقدره، مستعلياً على الألم، مترفعاً على الشكوى.
وفي يوم ذهبت زوجته لإحضار الطعام فلم تملك المال ولا العمل، فوجدت رجلاً قدم لها الطعام مقابل الحصول على ضفيرة من شعرها، فقبلت، وذهبت إلى أيوب ولما رأها تأثر كثيراً، فنظر أَيُّوبَ إلى السماء وقال:
«وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ».
وهنا، أضيء المكان بنور شفاف جميل وامتلأ الفضاء برائحة طيّبة، ورأى أَيُّوبَ ملَكاً يهبط من السماء يسلّم عليه ويقول: نِعمَ العبدُ أنت يا أَيُّوبَ إن الله يقرئك السلام، ويقول: لقد أُجيبت دعوتك وأن الله يعطيك أجر الصابرين، اضرب برجلك الأرض واغتسل في النبع البارد واشرب منه تبرأ بإذن الله. فضرب الأرض برجله اليمنى فانفجرت نبعاً اغتسل به، وضرب برجله اليسرى فانفجرت نبعاً شرب منه فعادت له عافيته وشبابه.
قال تعالى: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَة منّا وَذِكْرَى لأوْلِي الألْبَاب* وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».
أرجع الله له أبناءه الـ 16 ورزقه بمثلهم رحمة من عنده.
«فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ».
في النهاية خرج أَيُّوبَ (عليه السلام) سالماً من الامتحان الإلهي، ونزلت الرحمة الإلهيّة عليه.
أوضحت لنا هذه القصة نقاطاً عديدة مهمة، منها أن شروط الرحمة مقترنة بالشكر والحمد في الرخاء والبلاء، والصبر في مواجهة الصعاب عند البلاء، وأن الفوز والنصر متوقف على ذلك.
والذي يلفت النظر في الآية أنّ إعادة النعم الإلهيّة على أَيُّوبَ تحدّد بأمرين:
الأوّل: «رَحْمَةً مِّنَّا» وفي الحقيقة أنّها مكافأة وجائزة من البارئ عزّ وجلّ لعبده الصابر المقاوم أَيُّوبَ.
والثاني: أن تكون في ذلك ذكرى لأولي الألباب أي إعطاء درس لكلّ أصحاب العقول والفكر على طول التأريخ لأخذ العِبر من أَيُّوبَ، كي لا يفقدوا صبرهم وتحمّلهم عند تعرّضهم للمشاكل والحوادث الصعبة، وألا ييأسوا من رحمة الله، بل يزدادوا أملاً وتعلّقاً به.
ومن الواضح أنّ دعاء أَيُّوبَ البارئ عزّ وجلّ وطلبه دفع الوساوس الشيطانية عنه، ورفع البلاء والمرض عنه، ومداومته على (الشكر والاستغفار) تكون نتيجته أن العبد إذا كان دائماً شاكراً مستغفراً، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه.
فالعبد عليه أن يشكرالله ويحمده دائماً على كل حال ويستغفر من ذنوبه.
فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم.
ولا يقضي الله على مؤمن قضاء إلا كان خيراً له.
إن هذه القصّة أكدت مرّة اُخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة، ونزول المصائب، وحلول المشاكل والفقر، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف البارئ عزّ وجلّ، بل على العكس هي وسيلة لبلوغ المراتب السامية، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):
«إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلاّ باجتياز الابتلاءات».
اللهمّ أسبغ علينا صبراً واجعل الصبر يغشانا، فالمحن والابتلاءات التي تصيبنا كثيرة، واحفظ اللهمّ الكويت واجعلها آمنة مطمئنة، والحمدلله رب العالمين.