خطورة التصعيد الروسي في أوكرانيا

تصغير
تكبير

ليس أصعب من التعاطي مع سياسي يرفض الإعتراف بأنّه خسر المعركة التي يخوضها.

هذه حال فلاديمير بوتين الذي اعتقد أنّ الحرب الأوكرانيّة مجرّد نزهة وأنّه يكفي حشد قواته على الحدود والتقدم بضعة كيلومترات في الأراضي الأوكرانيّة كي يسقط النظام في كييف.

يظلّ أخطر ما في الأمر أن بوتين لم يترك امامه سوى خيار التصعيد، الذي لا افق له. إنّه تصعيد في غاية الخطورة.

من بين المخاطر ما حذرت منه الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية بعد تعرضّ محطة زابوريجيا الأوكرانية للطاقة النووية، التي تسيطر عليها روسيا، للقصف.

قالت الوكالة إن مثل هذه الهجمات «تهدد بكارثة نووية كبرى مشيرة إلى أن أكثر من عشرة انفجارات هزت (قبل بضعة أيّام) أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا».

دخلت الحرب الأوكرانيّة شهرها العاشر. اضطرت القوات الروسية قبل أيّام إلى الانسحاب من خيرسون، المدينة ذات الموقع الإستراتيجي في أوكرانيا.

عمليا، خسر بوتين حربه التي بدأت في الرابع والعشرين من فبراير الماضي. خسر الحرب، لكنه تسبب باضرار ضخمة على الصعيد العالمي في مجالي الطاقة والغذاء خصوصا.

لم تكن خيرسون المعركة الأولى التي يخسرها الرئيس الروسي. خسر أولاً معركة كييف، العاصمة الأوكرانيّة، التي لم تسقط بمجرّد بدء الحملة العسكريّة على أوكرانيا في الموعد الذي أعلن فيه الأميركيون أن هذه الحملة ستبدأ فيه.

جاء كشف الأميركيين للموعد الدقيق للهجوم الروسي، فيما كان بوتين نفسه ينفي أيّ نيّة في شنّ حرب على أوكرانيا.

كان ذلك بمثابة إشارة إلى أنّ واشنطن على علم بما يدور في موسكو من جهة، كما أنّها تعرف تماماً كيفية عمل عقل الرئيس الروسي ومدى تهوّره من جهة أخرى.

الأهمّ من ذلك كلّه، تبيّن أنّ أحد اهمّ رجال الإدارة الأميركيّة الحالية على معرفة دقيقة بما يدور في الكرملين الذي يتحكّم به رجل واحد وحيد اسمه فلاديمير بوتين.

المقصود هنا هو وليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية (سي. آي. إي) الذي سبق له أن عمل سفيراً لبلاده في موسكو بين العامين 2005 و2008.

لم يخسر بوتين حربه الأوكرانيّة فحسب، بل خسر مستقبله السياسي أيضاً.

لا يستطيع سياسي روسي، أو غير روسي، مهما بلغت درجة ذكائه، المحافظة، في المدى الطويل، على موقعه في حال لم يكن يعرف العالم ولا يعرف إمكانات روسيا نفسها. لا بدّ من التذكير للمرّة الألف أنّ حجم اقتصاد روسيا دون حجم الاقتصاد الإيطالي.

لا توجد أي آلة منزلية من انتاج روسي في أي بيت روسي. لا تنتج روسيا برّادا أو مكيّف هواء أو غسالة... أو سيّارة يمكن وصفها بالمحترمة. لم يخرج اقتصادها من الاعتماد على الدخل الآتي من الغاز والنفط.

لم يستطع بوتين تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد منتج، مثله مثل النظام الإيراني بعد ثورة العام 1979.

ارتكب بوتين كلّ الأخطاء التي يمكن لسياسي ارتكابها. وصل به الأمر، في نهاية المطاف، إلى الارتماء في الحضن الإيراني.

تبيّن أنّ المسيرات الإيرانيّة لم تحل دون سقوط خيرسون وأنّ كل ما تستطيع هذه المسيّرات عمله هو قتل مزيد من المدنيين وضرب محطات الكهرباء في أوكرانيا وزيادة العذابات اليوميّة للمواطن العادي، لا أكثر.

لا تستطيع هذه المسيّرات سوى تحقيق هدف استمرار الحرب. لم تعد لهذه الحرب شعبيّة في الداخل الروسي. كشفت ذلك حملة التجنيد الفاشلة التي دعا إليها بوتين. فرّ الروس بعشرات الآلاف من بلدهم بدل الالتحاق بالجيش!

لم يدرك الرئيس الروسي، منذ البداية، أنّ الحرب الأوكرانيّة هي حرب تعني أوروبا كلّها. لم يلق نظرة إلى خريطة أوكرانيا وموقعها الجغرافي قبل دخول مغامرته التي بناها على تجارب سابقة لم تكن تهمّ العالم.

من بين تلك التجارب إخضاع الشيشان والتدخل في جورجيا واحتلال شبه جزيرة القرم في العام 2014 ثمّ المشاركة، بناء على طلب إيراني، في الحرب على الشعب السوري ابتداء من خريف العام 2015.

لم يدرك بوتين، ولن يدرك يوماً، أنّ قتل السوريين وتشريدهم شيء وقتل الأوكرانيين وتشريدهم شيء آخر.

إنّه بكل بساطة رجل لا يعرف العالم ولا يعرف أنّ في استطاعته قتل العدد الذي يشاء من السوريين، فيما دخوله إلى أوكرانيا يجعل كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنها صارت مهددة، تماماً كما حصل في العامين 1938 و 1939 عندما بدأ ادولف هتلر يتمدّد أوروبيا.

لم يعد سرّاً أن العالم كلّه يعاني جراء الحرب الأوكرانيّة. ثمّة حاجة إلى إيجاد مخرج أو تسوية تؤكّد أنّ ليس مقبولاً استيلاء روسيا على أي أرض أوكرانيّة.

هل لدى الرئيس الروسي استعداد لمثل هذه التسوية، التي تعني بين ما تعنيه، أن استعادة امجاد الاتحاد السوفياتي مجرّد أوهام؟

سيفرض هذا السؤال نفسه في الأسابيع القليلة المقبلة، شاء بوتين ذلك أم أبى. يدفع في اتجاه مثل هذه التسوية كبار الضباط الأميركيون الذين يعرفون تماماً أنّ تمريغ أنف روسيا حصل.

يعود ذلك إلى أنّ الحرب الأوكرانيّة كشفت نقاط ضعف الجيش الروسي وتخلّف سلاحه، كما كشفت مدى عمق علاقة بوتين بالنظام الإيراني.

في كلّ الأحوال، جعلت الحرب الأوكرانيّة بوتين رجلاً من الماضي. سيبقى رجلاً معزولاً لا يحظى بأي احترام خارج حدود بلده... حتّى في بلد مثل الصين. رفضت الصين الدخول في لعبته الأوكرانيّة وفضلت إبقاء مسافة معيّنة بين موسكو وبكين.

كانت استعادة أوكرانيا لخيرسون منعطفاً تاريخياً. وضعت بوتين أمام حائط مسدود تحت عنوان عريض.

هذا العنوان هو استحالة ربح روسيا الحرب في أوكرانيا. ليس معروفاً كيف يستطيع الرئيس الروسي، الذي لا يزال يرفض دفع ثمن مغامرته، التعايش مع نظام أوكراني كان يعتقد أنّه سيسقط بمجرد إطلاق قذيفة مدفعيّة واحدة في إتجاه كييف؟

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي