قراءة في الانسحاب «الهجومي» من غرب خيرسون
روسيا بعيدة عن الاستسلام و«الأفق المقفل» يعجّل بـ... السلام!
«أوكرانيا لديها الزخم ولكن روسيا ما زالت بعيدة عن الاستسلام»... هذا ما قاله وزير الدفاع البريطاني بن والاس بعد انسحاب الجيش الروسي من الجهة الغربية من خيرسون.
مما لا شك فيه أن انسحابَ جيشِ دولةٍ عظمى كروسيا من الجزء الغربي من خيرسون، يُعتبر خسارة وإهانة - حتى ولو كانت تُحارِبُ 40 دولةً مجتمعة في غرفةِ عملياتِ عسكرية تدير الحرب من خلالها في القاعدة الأميركية في رامشتاين، المانيا - خصوصاً بعدما كان الرئيس فلاديمير بوتين أعلن ان المنطقة التي يقسمها نهر دنيبرو أصبحت جزءاً من الأراضي الروسية.
ومما لا شك فيه أيضاً أن الجيشَ الروسي لا يرتقي إلى مستوى طموحات بوتين وأهدافه وأنه يخوض حرباً كلاسيكية غير متكافئة لا يقوى فيها على هزيمة جيوش «الناتو» المجتمعة تحت غطاءٍ أوكراني، والتي تحارب روسيا بشتى أنواع الأسلحة والاستخبارات الحيوية والمعدات العسكرية اللازمة والتكتيكات الهجومية والدفاعية.
لكن القرار الروسي بالانسحاب من الجهة الغربية من خيرسون، أنقذ الجيشَ من هزيمةٍ ويمكن أن يفتح باباً لوقف الحرب كلياً، إذ بدأ بعض القادة الأميركيين يطالبون بالتفاوض لوضْع حد لعدم القدرة على كسر الدفاعات الروسية أو منْع موسكو من تحقيق أكثر أهدافها.
لم يكن الجيش الأوكراني يشكل أي خطر مباشر على الجيش الروسي الموجود في الجهة الغربية لنهر دنيبرو. بل ان وزير الدفاع الأوكراني شكّك في نيات موسكو بالانسحاب، خصوصاً أن خطوط الدفاع الروسية كانت ما زالت على حالها.
لذلك أعلن الغرب أن روسيا تحتاج لأسبوعٍ على الأقل لسحب 30 ألف جندي ومعداتهم من الجزء الغربي، بينما أكمل الكرملين سحْب قواته خلال 48 ساعة فقط، مفاجئاً جميع الذين تَعامَلوا مع التطورات السريعة بحذر، خوفاً من أن يكون الأمر في سياق مصيدةٍ روسية في خيرسون.
وجاء الانسحابُ نتيجةَ قراءةٍ عسكرية من القادة الروس الميدانيين وحصلتْ على موافقةِ بوتين بسبب فقدان الجدوى العسكرية وإمكان إقناع أميركا بوقف الحرب.
وفي خلاصة هذه القراءة، أنه كان بإمكان القوات الأوكرانية ضرْب خطوطِ الإمداد أثناء عبورها الجسر الذي يربط الضفتين الغربية والشرقية لتضع أكثر من 30 ألف جندي روسي في خطر العزْل إذا قرّرتْ كييف دفْع قواتها نحو الجبهة في الوقت المُناسِب، وتالياً فإن محاصرةَ عشرات الآلاف من الجنود وتعريضهم للموت والاستسلام قد يكون خسارة إستراتيجية تطيح بالقيادة العسكرية والسياسية برمّتها، بما فيهم بوتين، وتالياً فإن الكرملين قرّر إخراج الجيش من الجهة الغربية من خيرسون بفرصة ومن دون ضغط عسكري أثناء الانسحاب.
وتقع الجهة الغربية لخيرسون تحت مستوى الماء، وهي أكثر عرضة للإغراق.
ولو فجّرتْ أوكرانيا السدّ في محطة كاخوفكا لتوليد الطاقة - التي تعرّضت لبعض الإصابات من راجمات «هيمارس» دقيقة الإصابة والأميركية الصُنع التي يملكها الجيش الأوكراني - لَكانت خيرسون الغربية غرقت ومعها 80 مستوطنة وشلّت حركة الـ 30 ألف جندي روسي داخل المحافظة.
أما بعد إتمام الانسحاب، فأصبحت القوات الأوكرانية «داخل المصيدة» التي كان في داخلها جيش الكرملين، وتالياً فإن أي خطرِ هجومٍ كبير تقرره أوكرانيا في اتجاه الضفة الشرقية سيعرّضها للتدمير أو الإغراق، بحسب ضخامة الهجوم.
من هنا، فإن خط الدفاع الطبيعي - نهر دنيبرو - يؤمن للجيش الروسي ضمانةً دفاعية يصعب تخطيها طبيعياً ويرسم حدود روسيا الجديدة ويبعث رسائل إلى الغرب مؤداها أن أي معركة مقبلة لتحرير أراضٍ أوكرانية أصبحت من دون جدوى.
وباتت الأرض تدافع عن القوات الروسية شرق النهر ليصبح «دنيبرو» عارضاً طبيعياً لا يُخترق بالإضافة إلى الدفاعات الروسية المتينة على الجهة المقابلة للقوات الأوكرانية.
واحتفظت روسيا بالجزء الأكبر الشرقي لخيرسون الذي يمثّل ثلاثة أضعاف المساحة التي انسحبت منها قواتها لتبقى سداً منيعاً أمام جزيرة القرم التي وَعَد الرئيس فولوديمير زيلينسكي بتحريرها.
وكذلك تحتفظ موسكو بالإطلالة على بحر آزوف وبتأمين تدفق المياه العذبة لجزيرة القرم والمناطق الأخرى تحت سيطرتها بعدما منعتْها أوكرانيا من التدفق منذ عام 2014.
وكان من غير الممكن للجيش الروسي البقاء في خيرسون الغربية من دون التقدم نحو ميكولايف وأوديسا واحتلالهما. وهذا لم يعد خياراً أمامه بعدما حدد بوتين أهداف العملية العسكرية، فضلاً عن أن أوديسا محصَّنة ومدعَّمة للصمود واستنزاف الجيش الروسي، وهذا ما لا تريده القيادة في موسكو.
وفي العِلْم العسكري، فإن الاحتفاظَ بالأرض وتَكَبُّد خسائر فادحة ليس خياراً أمام القيادة العسكرية.
فقد وصلت القوات الروسية في الأسبوع الأول من بدء المعركة إلى 30 كيلومتراً من العاصمة كييف، أي إلى هوستوميل، وكذلك إلى خاركيف وانسحبت منهما.
وتَبَيَّنَ للقادة في موسكو ان أوكرانيا معادية وستحارب بدعمٍ غربي ليس محدودا من دون الالتفات إلى الخسائر، وهذا ما لم يدركه قادة الكرملين منذ بدء الحرب.
وقد صدَق الرئيس جو بايدن حين أكد ان «روسيا لم تحقق ما أرادت تحقيقه منذ البداية». ولهذا فقد عدّل بوتين من طموحاته ليكتفي بدونباس وزابوريجيا والقسم الأكبر من خيرسون.
وأظهرت أَشْهُرُ الحربِ الطويلة، أن روسيا لا تملك القدرات العسكرية التقليدية لاحتلال أوكرانيا المدعومة من دول «الناتو» مجتمعةً، وتالياً ذهب الكرملين إلى إستراتيجيةِ تثبيت المواقع ومنْع استنزاف الجيش الروسي، وفضّل العمل على استنزافِ قدرات الغرب الذي ارتفعت أصواتُ قادتِه العسكريين أمام شحّ الإمدادات العسكرية والذخائر بعد نفادها وقادته السياسيين من التضخم الاقتصادي الذي يضرب القارة الأوروبية.
وأصبحت إستراتيجيةُ روسيا دفاعيةً في خيرسون وهجوميةً في مناطق أخرى، توظّفُ فائضَ القوات المنسحبة من خيرسون لإكمال السيطرة على كامل دونباس واستثمارها في هجومِ في مناطق لوغانسك حيث تشتد المعارك.
وكشفت الإدارةُ الأميركية عن اختلافٍ في وجهات النظر بين رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية الجنرال مارك ميلي، الذي كان نصح بالاحتكام إلى الديبلوماسية، بينما لم يوافق وزيرا الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان.
وهذا يدلّ على أنه في المفهوم العسكري، لم يعد هناك أفقٌ لاستنزاف روسيا في أوكرانيا بعدما حصّنت مواقعها وبعدما سلّمت إلى إيران، عدوة أميركا، عِلْمَ صناعة الصواريخ الفرط صوتية، وتالياً ينبغي وقف المعركة قبل استفحال الأضرار المباشرة والجانبية.
وفي السياق، يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ان «الغرب يهاجم روسيا على ما يبدو بلا نهاية».
إلا أن الأصوات بدأت بالخروج من أوروبا وسط تململ حول وقف المساعدات العسكرية والأضرار الاقتصادية لاستمرار الحرب، وتالياً لم تعد أميركا تسيطر على الوضع الغربي ككل بسبب التحركات في الشوارع الغربية المُطالِبة بلجْم ارتفاع الأسعار وإنهاء الحرب والذهاب نحو المفاوضات.
فالانتصاراتُ الأوكرانية الميدانية لا توقف الحربَ، وأرضُ المعركة غير ثابتة ولن تتمكن أميركا من استنزاف روسيا بل استنزفت حلفاءها الأوروبيين، وتالياً أصبحت المعركةُ من دون أفق خصوصاً أن الشتاء أصبح على الأبواب وأن روسيا لن تتخلى عن أهدافها وهي تستخدم أسلوب القصف بعيد المدى وتدمير البنى التحتية الأوكرانية التي بلغت خسائرها 750 مليار دولار حتى الآن.
مهما طال أمد الحرب، فإن طاولة المفاوضات هي التي تحكم في نهاية المعركة.
وتكمن المشكلةُ في مَن سيعلن خسارته أولاً: أميركا أو أوروبا (لأن روسيا تسيطر على 100 ألف كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية، وتالياً هي لن تخرج خاسرة في كل الأحوال)؟
لقد تحدّتْ روسيا، الأحاديةَ الأميركية للعالم ووُضع هذا المسار على سكة التنفيذ. فهل تَقْبَلُ أميركا بإنهاء الحرب بعد أن تحتفظ روسيا بأراضٍ شاسعة من أوكرانيا ويجري التفاوض حيث يظهر عدم خسارة أي من الدولتين العظمييْن، لتبقى أوكرانيا (وأوروبا) الخاسر الأكبر؟