No Script

من الخميس إلى الخميس

بيتٌ في قلوبِ الآخرين

تصغير
تكبير

حين بلغ به المرض حد الموت، سألته: ثلاثة شهور وأنت في المشفى لم يأتِ أحد لزيارتك، هذه قصة من عشرات قصص الواقع التي مرّت بي والتي تعلمتُ منها دروسا لا أنساها.

بعد شهرين من دخوله المشفى لاحظتُ وِحْدَتهُ التي كانت سرّ حزنه الدائم.

يوماً بعد يوم يبتعد عن الدنيا ويقترب من الآخرة، ويوماً بعد يوم يُودّع أحلامه الفانية ويدنو من آخرته الدائمة، تابعتُهُ شهراً وأنا ما زلت مُتعجباً من انقطاع الزيارات عنه، فتاريخه المرضي يكشف أن لديه أولاداً، وربما يكون له أخوة وأخوات؛ ولا شك أنّ له أصدقاءً وزملاءً، ولكن أين كل هؤلاء؟ حين سألته عن وحدته في يوم ربيع جميل، أجابني وهو ينظر عبر النافذة إلى السماء التي توزعت فيها الغيوم البيضاء سامحة بتسلل أشعة الشمس داخل غرفته، قال لي:

لديّ خمسة أبناء وأربع بنات؛ ولي أربعة أشقاء ومثلهم من الشقيقات، أما الذين عرفتهم فهم بالمئات ممن كانوا أصدقاء؛ ومن كانوا زملاء وجيران ومعارف، فيهم من أحبّني وفيهم من تقرّب إليّ؛ وفيهم من كان يَودُّ صداقتي، لكنني أنا الذي لم أحِبَ أحداً ولم أقترب من أحد، نظر إليَّ وأكمل اعترافه، متى اتخذت القرار الخطير الذي جعل حياتي تنتهي إلى ما أنا فيه؟ لا أعلم. لكني اتخذته منذ زمن طويل، عشت لنفسي ولنفسي فقط لم أشعر بالآخرين، وللأمانة لم أكن أطلب من الآخرين الشعور بي، في هذه الحياة عِشت لأجلي أنا وأنا فقط، زوجتي التي انفصلتُ عنها لم تكن لي سوى حاضنةً للأولاد، أما أولادي فلم يكونوا سوى حاجة فطرية واجتماعية تركتُهُم لأمهم لتتولى جميع أَمورِهِم. منذ مات أبي قبل عشرين عاماً لم أسْعَ لرؤية إخوتي وأخواتي، البعض منهم جاء لزيارتي حتى ملوّا من طريقة استقبالي، لكني لم أزر أحداً، ولم أردّ على مكالمات أحد، ويمكنك طبعاً تخيُّل كيف كنت أعامل زملائي أو جيراني أو من ظنّوا أنهم أصدقائي. أما أمي التي تُوفيت منذ عام لم أزرها قط في بيتها، كانت تزور منزلي وتُطيل الانتظار لعلي إذا دخلتُ أُلقي عليها التحية، كانت نظراتُ الدهشةِ قد اتسعت في مُقلتيّ حتى ملأت محيطها، ابتسم قائلاً: لا تتعجّب فهناك الكثير في الخارج من هم مثلي أو يقتربون ليصبحوا مثلي؛ حياتهم كلها تدور حول أنفسهم، نحن مجاميع نحيا بينكم، لا نهتم إلاّ بأنفسنا نقيس كل إنسان بمقياس المصلحة والمصلحة فقط، من أستفيد منه هو صاحبي وصديقي وأخي هذا هو شعارنا الذي نحيا من أجله.

بعد أيام، زرتُهُ قبل أن يدخل في غيبوبته الأخيرة، رأيت دموعاً في عينيه تسللّت فوق خديه، مسحت دموعه بمنديلي ثم أمسكتُ يديه بحنان، ابتسم قائلاً: كم أشتاق إلى أبنائي وأشقائي؛ لكن النهاية كانت أسرع من اتصالاتي بهم، حين تواصلت بهم لم يكونوا يعلمون عن مرضه، جميعهم جاؤوا إليه مسرعين، لكنه كان قد فقد فرصة اللقاء بهم، حُرِمَ من اللقاء الذي لم يعمل لأجله أبداً.

من كان لديه وقت فَلْيَبنِ له بيتاً في قلوب الآخرين قبل فوات الأوان.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي