ماذا يمكن أن يُقدّم الاقتصاد الإسلامي للنظام العالمي؟
لم يكد يستفيق العالم من تداعيات جائحة (Covid-19) الاقتصادية، إلا ودخلت البشرية في أزمة ركود تضخمي (Stagflation) نتج عنه ارتفاع المستوى العام للأسعار وزيادة معدل البطالة وتراجع لمعدلات النمو الاقتصادي بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي كانت الدافع الرئيسي لأزمة إمدادات الغذاء والطاقة.
وعلى إثر ذلك، سارعت الدول والحكومات الغربية لمواجهة الغلاء العالمي الناتج عن ارتفاع كلفة الإنتاج، فقررت رفع معدلات سعر الفائدة بشكل تدريجي لكبح جماح التضخم، حيث رفع مجلس الفيديرالي الأميركي الفائدة 75 نقطة 3 مرات على التوالي، لتبلغ 3.25 في المئة والمتوقع المزيد من زيادة المستوى حتى نهاية العام الجاري.
ومما لا شك فيه أن مثل هذه الأزمات الاقتصادية الحادة لا تملك أدوات السياسة النقدية لوحدها كبح جماحها، فالأمر يتطلب تضافر جهود السياسات الاقتصادية المختلفة، وعلى رأسها السياسات المالية والتجارية، وإن كنت أعتقد أن التطورات الاقتصادية الحالية مختلفة كلية عن معظم الأزمات السابقة، في ظل فشل وتراجع النظام الرأسمالي في حل المشكلات الاقتصادية التي أصابت ومازالت تُثخن جراح العالم. فهل يمكننا القول: إن الاقتصاد الإسلامي هو النظام الجديد الذي سيفتح العالم له أبوابه؟
الاقتصاد الحر ودور الدولة:
أكدت لنا جائحة (Covid-19) بما لا يدع مجالاً للريبة، أن دور الدولة والقطاع العام في النشاط الاقتصادي والاجتماعي مطلوب بل واجب، فها هي الدول الغربية الرأسمالية يتهاوى نظامها الصحي أمام شدة هذا الفيروس، بالمقابل قدمت دول الخليج وعلى رأسها دولة الكويت نموذجاً يُحتذى به للرعاية الصحية والطبية للمرضى والمصابين، وهذا يدلل على ضرورة أن تمسك الدولة بلجام الرعاية الصحية وتحافظ على استدامة الرفاهية الاقتصادية الاجتماعية لسكانها، لاسيما أصحاب الحاجات والمتضررين منهم.
وهذا لايعني بأي حال من الأحوال أننا ضد الخصخصة، فهي قرينة للتنمية وتوأمها الذي يشابهها، بشرط تطبيقها بشكل سليم وتدرج دون مساس بالضروريات والحاجيات الاجتماعية أو التقصير بالرفاه للمواطن.
الاستقرار الاقتصادي:
يمكن القول إن العالم يتجه إلى حالة من اللا استقرار، قد يكون شبيهاً بالكساد الكبير عام 1929 نتيجة عوامل انكماشية وتضخمية متعددة، بسبب آثار جائحة (Covid-19) من جهة، وما نشهده من نتائج الحرب الروسية-الأوكرانية من جهة أخرى، وما هذه الآثار إلا تراكم من الإخفاقات للنظام الاقتصادي على مدى عقود طويلة، ارتفع فيها نمو الاقتصاد المالي عبر مضاربات غير حقيقية بأكثر من الاقتصاد الحقيقي، الأمر الذي جعل الاقتصاد المالي يفوق الحقيقي بأكثر من مئة مرة! مع العلم أن الأصل في الاقتصاد المالي أن يكون داعماً للاقتصاد الحقيقي لا العكس، فتولدت أزمات مالية وائتمانية متتالية وعدم استقرار سعري للقيمة النقدية للعملات العالمية، فحالة ارتفاع الدين العام العالمي بأكثر من الناتج أضحت الأساس مع الأسف، وتنذر بأزمة اقتصادية مستقبلية لا تحمد عقباها.
بيد أن الاقتصاد الإسلامي جعل الاقتصاد المالي تابعاً للاقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج للسلع والخدمات، فعلى سبيل المثال، يمنع تداول المشتقات المالية (Financial Derivatives) التي تخالف الفطرة الاقتصادية عبر انفصام بين الأصل ومخاطره، إذ إن تداول المخاطر بشكل مجرد في الأسواق المالية لا يجوز شرعاً حالاً كان أو مؤجلاً. مع العلم أن الاقتصاد الإسلامي يمزج بين الأصل ومخاطره، فلا ربح إلا بالعمل أو الملكية والضمان، وبعبارة أخرى: وجوب المشاركة بالربح والخسارة لا ضمان رأس المال والربح، كما لا يسمح الاقتصاد الإسلامي ببيع السلعة أو الأصل المالي والاستفادة من عوائدها دون تملكها وتحمل مخاطرها.
العدالة الاجتماعية في التوزيع:
تسعى الأنظمة الاقتصادية على اختلافها (الرأسمالية والاشتراكية وغيرهما) إلى وضع تصوراتها في مفهوم عدالة التوزيع، فالرأسمالية تجعل من الفرد أساساً للتوزيع، فلا توزيع للدخل أو الثروة إلا بالمشاركة الوظيفية في النشاط الاقتصادي من وسائل الإنتاج، بالأرض من موارد طبيعية وريعها، أو العمل من موارد بشرية وأجورها، أو رأسمال من آلات وفائدتها، أو منظم من شركات وأرباحها، وبالتالي فالمدرسة الرأسمالية بدءاً من الكلاسيك والنيو كلاسيك والكينزيين وانتهاءً بغيرهم جعلت من الحرية ركيزة للعدالة الاجتماعية، من منطلق مقولة الاقتصادي الفرنسي فنسنت دي جورناي: (دعه يعمل دعه يمر).
وبالنظر إلى الفكر الاشتراكي الذي رفع شعار العدالة الاجتماعية المبنية على المساواة، فإنه أول ما اصطدم به؛ دافع الإنتاج والعمل، والتي أذيبت بحرارة المساواة بين الطبقات، وقد عبر ماركس بفلسفته الشهيرة: (من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته).
وفي النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يقوم على مبدأ حرية الإنتاج والسوق وفق مبادئ الشريعة السمحاء، يؤكد التوزيع الأولي والوظيفي في الاقتصاد، إلا أنه لم يغفل العدالة التوزيعية من خلال عملية إعادة التوزيع للفئة التي لا تملك المساهمة في النشاط الاقتصادي، من فقراء ومساكين ونحوهم من أهل العوز، فشرع الله الزكاة كنموذج فريد.
علاوة على ذلك، فالاقتصاد الإسلامي ينشد العدالة الاجتماعية القائمة على العدالة لا المساواة، فليست كل مساواة عدالة في الإسلام، فقد قال تعالى: «واللهُ فضّل بعضكم على بعض في الرزق»، وما يؤكد على هذه الفلسفة الإسلامية الأخلاقية التفاوت في أنصبة المواريث، فسهم المرأتين يعادل رجل كما في قوله تعالى: «للذّكر مثلُ حظ الأُنثيين»، وغيرها من الأدلة والشواهد الأخرى.
بين الاحتكار والمنافسة:
تعتبر المنافسة من جهة والاحتكار من جهة ثانية أحد صور السوق في الاقتصاد، حيث إن النظام الاقتصادي الحالي يبيح للمنتج التحكم بعرض السلعة والأسعار معاً كصانع للسوق (Price Maker) وفق نموذج الاحتكار، دون أي اعتبارات للمستهلك أو البنية الاجتماعية للنظام الاقتصادي، فالمحتكر يملك السيطرة على المواد الأولية للمنتج، وعلى الحقوق القانونية للسلعة أو الخدمة، وبالتالي الهيمنة الكاملة على رفع الأسعار.
ومما لا شك فيه أن الاحتكار له أضرار جمة على الاقتصاد؛ لعل من أشدها: تركز الثروة بيد القلة 20 في المئة، وهم المنتجون، علاوة على غياب العدالة التوزيعية للدخول. وهذا مما شوهد بعد الأزمة الاقتصادية الحالية؛ في ارتفاع للأسعار بسبب احتكار كبرى الشركات العالمية للسلع الأساسية، ما نتج عنه زيادة في مستويات الفقر والفاقة بين البشرية.
ورغم أن توصيف الاحتكار في الفقه المالي الإسلامي مختلف بعض الشيء عن التوصيف الاقتصادي التقليدي، إلا أنه نهى عن حبس كل ما من شأنه الإضرار بمصالح الناس الضرورية والحاجية، سواء بهدف الغلاء أو حتى افتعاله عبر رفع الأسعار، فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الاحتكار فقال: (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون)، ومن هنا يمكن القول إن السوق في النموذج الاقتصادي الإسلامي يقوم على المنافسة لا الاحتكار، فهو ليس سوق منافسة تامة (Perfect competition) تتفاعل فيه قوى العرض والطلب بحرية مطلقة، بل هو سوق يتفاعل فيه العرض مع الطلب بالإضافة لتدخل محدود للدولة، تحفظ فيه حقوق المستهلكين والمنتجين وفق ضوابط وصلاحيات وأدوار.
• باحـث اقتصـادي