أجّلت كتابة ونشر هذا المقال إلى ما بعد انتهاء المنافسة على منصب نائب رئيس مجلس الأمة، لسببين رئيسيّين. أحدهما إضفاء المزيد من الموضوعية للرأي المطروح في المقال، بغرض تعزيز أثره التوعوي. والسبب الآخر الأهم، هو تفادي التصادم مع أمواج الشحن الطائفي، التي اجتاحت مساحات واسعة من أجواء التنافس على المنصب، حين كانت في أوجها.
بواعث القلق من هذه الأمواج الطائفية متعدّدة، أخطرها تزايد قوّتها وعُتوّها. فإذا قارنّا بين الأمواج الطائفية التي واكبت المنافسة بين النائبين جوهر والمطير على منصب نائب الرئيس في المجلس الحالي وبين تلك المقترنة بالمنافسة بين جوهر والشحومي على المنصب ذاته في المجلس السابق، نرى تفاقماً واضحاً في شدّة هذه الأمواج مع مرور السنوات.
ففي المجلس السابق رُصدت الطائفية الاقصائية بعد الانتهاء من انتخاب الرئيس ونائبه. حيث افتقد جوهر تسعة أصوات من بين الأصوات التي حصل عليها الحميدي شريكه في المعارضة. في المقابل، التحرّكات الطائفية الاقصائية في المجلس الحالي بدأت مبكراً وكانت علنية وانتهت بتصوير أوراق الاقتراع.
وفي المجلس السابق وُظّفت الورقة الطائفية لصالح جوهر بعد إعلان خسارته وفوز الشحومي، حيث انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي رسائل وتعقيبات من مؤيّدين له، تؤكّد أنّ النوّاب الشيعة لم يصوّتوا له. إلى جانب تصريحات مماثلة من جوهر نفسه بالدواوين، بل إنه في لقاء متلفز بادر بالتصريح «خارج نطاق السؤال المطروح» انه لم يحصل على أي صوت من النوّاب الشيعة، من دون أن يوضّح لماذا كان يتوقّع أن يصوّت له نوّاب الموالاة الشيعة عوضاً عن التصويت لمرشح الموالاة الشحومي. وأما في المجلس الحالي، الضغط الشعبي على النوّاب الشيعة بدأ مبكراً فور الإعلان عن ترشّح جوهر لمنصب نائب الرئيس، وكان من بين صورها تسليط الضوء على معايير المفاضلة النظرية التي ترجّح كفّته من دون الإشارة إلى المعايير المتعلقة بالقدرة على مواجهة واحتواء النوّاب وإدارة الجلسات.
ظاهرة التفاقم المتتالي لهذه الأمواج الطائفية تنكشف أكثر، عندما نستذكر اللوحة الوطنية الرائعة التي رسمها مجلس الأمة بإقرار قانون الأحوال الشخصية الجعفرية بغالبية كاسحة. فبعد هذه الجلسة التي جسّدت الوحدة الوطنية الدستورية في 2019، وقعت أحداث انتخاب نائب رئيس مجلس 2020، التي كشفت النفس الطائفي الاقصائي لدى ما يقارب خُمْس النوّاب المنتخبين، ثم لحقتها الأجواء الطائفية التي غيّمت سماء المنافسة على منصب نائب رئيس المجلس الحالي.
خطورة هذه الظاهرة من شقّين. الأول في الحضور القوي للطائفيين الاقصائيّين في البرلمان بالرغم من تناقض عقيدتهم السياسية مع قيم ومبادئ ومواد دستورية، كالمادة (29) التي تحظر التمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين. والشق الثاني في التحصين الاستثنائي الذي يتمتّعون به من جرّاء تحالفهم مع الطائفيين نيابيّاً (رقابيّاً وتشريعيّاً)، رموز الوحدة المحدودة المقتصرة على النطاقين الاجتماعي والسياسي، الذين يُطلق عليهم زوراً «رموز الوحدة الوطنية».
فمعظم الذين يطلق عليهم «رموز الوحدة الوطنية» نهجهم النيابي (الرقابي والتشريعي) طائفي وفق الموازين الدستورية. لأن نهجهم متوافق مع ثوابت الطائفيّين الذين يوظفون الدين والقيم الأخلاقية لصالح أجنداتهم الإقصائية، فضلاً عن استدامة تقاعس هؤلاء الرموز عن دورهم الوطني الدستوري في التصدّي للمشاريع الطائفيّة الإقصائيّة. كالنائب الذي استجوب وزير التربية والتعليم العالي للتأخّر في تطبيق قانون منع الاختلاط في جامعة الكويت، وتناسى مساءلته على ما يشوب المناهج الدراسية من دروس ومعلومات تنخر النسيج الوطني، وكالنائب الذي يطالب بإلغاء عقوبة الحبس عن جميع قضايا الرأي إلا تلك التي يصر الطائفيون الاقصائيون على استمرارها.
لذلك، نحن الشعب أمام طائفيّة مركّبة، نواتها طائفية اقصائية وغلافها الحيوي طائفية نيابية، لا يمكن فكّها ومعالجتها إلا بنهج وحدوي وطني دستوري، محوره المساواة في الحقوق والواجبات العامة من دون تمييز فئوي... «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه».
abdnakhi@yahoo.com