«الراي» تحدّثتْ إلى اختصاصيين عن عودة «العدو النائم»
الكوليرا تتمدد في لبنان.. «يا محلا كورونا»
... إنها الكوليرا تقرع بابَ لبنان من جديد بعد أفولها تماماً منذ العام 1993. هذا المرض الذي كان له صولات وجولات مميتة عبر التاريخ، يعود الى الظهور في شكل متسارع في شمال لبنان وشرقه وبقاعه مع تَزايُد عدد الحالات يومياً ما يقرع ناقوس خطر جديد يتربص بالشعب البائس المتخم بالأزمات الهائلة.
بدأت وزارة الصحة في لبنان، وعلى غرار ما كانت تفعله أيام طفرة «كورونا» بتوزيع نشرة يومية عن حالات الكوليرا المثبتة التي تزداد يومياً وسط مخاوف من تَصاعُد متسارع لعدد الإصابات ولا سيما مع وجود حالات مخفية لا تظهر عليها أي عوارض لكنها كفيلة بنقل العدوى إلى محيطها، ما دفع إلى إستنفار الجهات المختصة للسيطرة على تفشي المرض وتقديم العلاجات الفاعلة لكن أسبابه أصعب وأعمق من أن يبقى تحت السيطرة بسهولة.
الاسم وحده كفيل بنشر الذعر في النفوس، فالكوليرا حصدت في جولاتها السبع التي دارت فيها على العالم في القرن السابق أعداداً لا تحصى من الضحايا. ورغم كونها اليوم باتت سهلة العلاج ويمكن التحكّم بتداعياتها، إلا أن تفشيها سريعٌ وأي خلل في النظام الصحي وعدم القدرة على تقديم العلاجات البسيطة من شأنه أن يفاقم الوضع ويرفع عدد الذين يحتاجون الى استشفاء أو يؤدي الى حالات وفاة عند الأكثر هشاشة. فهل يمكن للبنان، الذي يتخبط بأزمات كثيرة والخارِجِ من معركةٍ شرسة مع «كورونا» والذي يشهد نظامه الصحي شبه انهيارٍ تام، أن يواجه زحف الكوليرا؟ وما الأسباب التي أدت الى عودة هذا المرض الى أراضيه؟
«الراي» جالتْ على إختصاصيين في مجالات الأوبئة والبيئة والمياه للإطلاع منهم على خطورة المرحلة وإمكانات لبنان في التصدي للكوليرا الذي شجّل عدّاده حسب آخر الأرقام الرسمية 89 حالة (و3 وفيات) تتركّز في الشمال (المنية الضنية وعكار) وانتقلت إلى البقاع (عرسال) مع 3 حالات في كسروان (شمال بيروت) وسط تَصاعُد المخاوف من إنتشار سريع للمرض في الأوساط الأكثر فقراً وتهميشاً وظهور أكثر من حالة وفاة أثارت الكثير من القلق.
الدكتور سليم أديب، استاذ الوبائيات في الجامعة الأميركية في بيروت، يشرح لـ «الراي» ان الكوليرا بدأت في لبنان على صعيد حالات متفرّقة تأتي عبر الحدود مع سورية سواء في شمال لبنان أو بقاعه ولا نعرف بعد إذا كانت البلاد تشهد إنتقالاً داخلياً للحالات ولذا لا يمكن الحديث بعد عن وباء لا سيما أن الأعداد لا تزال محصورة نسبياً رغم ازديادها.
ويقول هذا الخبير إن «الكوليرا مرض ينجم عن بكتيريا Vibrio Cholerae التي تنتقل عبر المياه الملوثة. فحين تختلط المياه بمواد عضوية من البراز قد تَظهر فيها هذه البكتيريا التي تنتقل إلى الإنسان عن طريق الفم. حين يبتلع المرء هذه البكتيريا يصاب بالكوليرا. ولكن لحسن الحظ أن 5 في المئة فقط من المصابين يشعرون بعوارض مثل الإسهال والغثيان و 2 في المئة يصلون إلى وضع متأزم يحتاجون معه إلى مصل فيما الباقون لا يشعرون بأي أعراض لكنهم قادرون على نقل المرض وهنا تكمن الخطورة».
تاريخياً كانت الكوليرا تحصد ضحايا لعدم وجود طرق لعلاجها، كما كانت تنتقل بسرعة نظراً لإنتفاء قواعد النظافة ولتلوث مصادر المياه. لكن بعد سبع جولات للكوليرا في القرن الماضي أصبحت البكتيريا أقل قدرة على التأثير من سابقاتها واليوم لم تعد تُعتبر مميتة إلا حيث يعاني النظام الصحي من قلة فاعلية وعدم قدرة على توفير الأدوية والمضادات الحيوية والأمصال بالسرعة الكافية.
«العلاج بسيط وقليل الثمن وإذا كنا مجهزين جيداً يمكن مواجهة الكوليرا بفاعلية»، بحسب الدكتور أديب، الذي يوضح إن «لبنان وفي مدنه الكبرى مجهَّز في شكل كاف لمواجهة المرض» وهذا ما كان وزير الصحة اللبناني الدكتور فراس أبيض قد أكده في وقت سابق مُطَمْئناً إلى وجود الأدوية والأمصال بكميات كافية، لكنه حذر كذلك من أنه في حال تفشي المرض في شكل كبير لا يمكن لمستشفيات لبنان مواجهته، ويبقى الحل الأنسب الوقاية وحماية مصادر المياه من التلوث. ولكن في ظل وجود مخيمات النازحين المكتظة وعشوائية الصرف الصحي وشبه استحالة لمعالجة المياه في هذه البؤر الصعبة ومحيطها كيف يمكن الحديث عن حماية مصادر المياه؟
ويؤكد أديب أن «الإشكالية هي في مناطق الأطراف حيث يمكن للمخزون المحدود من الأدوية و الأمصال المتوافر في البلدات الصغيرة ومراكز الأقضية أن يَنْفذ بسرعة ولا سيما إذا تزايد عدد الحالات أو تم انتقال المرض داخلياً أو حدَث عبور مكثف لأشخاص آتين من سورية بحثاً عن علاج. ومع صعوبة الأوضاع الاقتصادية و المالية لم يعد من السهل على وزارة الصحة الحصول على الأمصال بالسرعة الكافية. ولذا فإن الخوف في مناطق الأطراف قائم ولا بد من تعزيزها بمخزون كاف من الأمصال والمضادات الحيوية وتفعيل دور المستشفيات والمستوصفات فيها».
نسأل هذا الخبير الوبائي عن سرعة انتشار المرض فيقول «إن السبب الرئيسي يعود إلى تلوث المياه. فالصيفية الطويلة التي أدت إلى شح في المياه جعلت المزارعين في المناطق الحدودية يعودون إلى الطريقة القديمة في الري وإستعمال مياه ملوثة تنقل العدوى إليهم وإلى الخضار.
ومن جهة أخرى تنتقل العدوى من شخص إلى آخَر إذا لم يعتمد الشخص المصاب النظافة الشخصية المطلوبة وغسل يديه جيداً بعد التبرز إذ انه في هذه الحال قد ينقل البكتيريا من يديه إلى الآخرين ولا سيما إن كان يعمل في مجال المطاعم أو الفنادق أو حتى إذا كان سجيناً مثلاً أو يختلط بأشخاص كثر».
وتُمْلي مواجهة الكوليرا في لبنان الإهتمامَ بأكثر من نقطة، أوّلها التأكد من مصادر المياه. وقد أصدرت وزارة الصحة بياناً تشير فيه الى عدم ثبوت تلوّث عينات المياه التي تم جمعها من مناطق مختلفة بباكتيريا الكوليرا. لكن يبقى هذا الأمر مثار جدل، فهل تم فحص كل مصادر المياه التي تصل الى البيوت والمدارس؟ وهل جرى التأكد من مصادر ري المزروعات؟ وهل يمكن للبنان الذي يعاني تلوث كل أنهاره أن يؤكد خلو مياهها من الملوثات العضوية الناجمة عن المياه الآسنة؟ وماذا عن الرقابة الصحية الفاعلة في المطاعم والمحلات التي تقدم الطعام؟
صحيح ان وحدة الترصد الوبائي لم تثبت وجود تلوث في مياه الشرب المنقولة عبر شبكات المياه، ولكن كثير من قرى لبنان ما زالت تعتمد على الينابيع والآبار للشرب لا سيما في غياب القدرة على ضخ المياه من مصالح المياه بسبب النقص في مادة المازوت وغياب التيار الكهربائي.
وفي غياب معالجة المياه على صعيد رسمي، ينصح الدكتور أديب بتطهير المياه قبل شربها بوسائل بسيطة أي بغلْيها أو بإضافة عصير الحامض إليها أو مادة الكلورين وتطهير الخضار أو الفاكهة بالطرق نفسها قبل تناولها نيئة أو طهوها جيداً. ويبقى غسل اليدين هو الحل الفعال لمنع تناقل عدوى الكوليرا والتأكيد على حماية مَن هم أدنى مناعة مثل الصغار وكبار السن.
رئيس قسم الصحة والبيئة ومدير مختبر البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية الدكتور جلال حلواني يؤكد بدوره لـ «الراي» ان الكوليرا بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية وكل المراجع الطبية هي مرض ينتقل بواسطة المياه وفي حال وجود مياه ملوّثة يمكن للكوليرا الإنتقال بسرعة ولا سيما عند الأشخاص الذين يفتقدون إلى المناعة القوية.
لكن أخيراً شهد لبنان نوعاً من التلكؤ في حماية مصادر المياه. وما فاقم الموضوع هو أزمة التيار الكهربائي إذ ان محطات معالجة مياه الشرب قد توقفت مرات عدة بسبب إنقطاع الكهرباء وعدم التمكن من تشغيل المولّدات نتيجة عدم وجود المازوت. وهذا التوقف أفضى إلى مشكلات كبيرة للمرة الأولى في عدد من مناطق لبنان ولا سيما في شماله حيث باتت المياه لا توزَّع إلا لساعتين فقط في اليوم، وهو ما جعل شبكات المياه شبه فارغة.
وعلمياً، يقول حلواني، «يجب أن تبقى شبكات المياه دائماً تحت الضغط حتى لا تَحْدُث داخلها عملية نموٍّ للملوثات. وحين فرغت شبكات المياه في المدن نما في الخزانات والقساطل ما يسمى البيوفيلم الذي تنمو عليه الجراثيم وزادت حالات تلوث المياه في كثير من الأماكن».
تلوث المياه هذا جعل إمكان إنتشار الكوليرا قوياً جداً ولا سيما في شمال لبنان المهدَّد أصلاً بسبب انتشار الكوليرا في سورية والإتصال الدائم بين البلدين سواء عن طريق السوريين الذين يدخلون لبنان بالمئات يومياً او عن طريق البضائع التي يتم تهريبها بين الطرفين.
علماً أن لبنان كان من الدول التي انتهتْ فيها الكوليرا في العام 1993 و«لكننا أصبحنا الآن للأسف نُصنَّف ضمن البلدان التي تفتقد إلى أدنى معايير الصحة الإجتماعية» بحسب حلواني، الذي يرى انه «اليوم لا بد من تقديم الدعم الفوري والعاجل إلى مؤسسات المياه لتشغيل محطات معالجة مياه الشرب أو مياه الصرف الصحي وتسريع عملية ضخ المياه كي تبقى شبكة المياه تنعم بحد أدنى من الضغط لضمان جودة هذه المياه وحصول المواطنين على مياه صالحة للشرب».
وزارة الصحة اللبنانية سارعت إلى التحرك وأصدرت توصيات للوقاية لمنع إنتشار المرض ركّزت فيها على النظافة الشخصية ونظافة الأطعمة، وطالبت بعدم شرب مياه غير مأمونة ونصحت بتناول المياه من القوارير المعبأة المقفلة غافلة أن المياه المعبأة لم تعد في متناول الفئات الفقيرة نظراً الى تحليق أسعارها، وحتى غلي المياه صار مكلفاً بالنسبة للكثيرين بفعل ارتفاع سعر الغاز.
وقبل ساعاتٍ أعلن وزير الصحة في حكومة تصريف الاعمال فراس الأبيض عن «منصة موحدة التي سيتم اعتمادها على مستوى وطني لجمع جهود مراكز الرعاية الصحية الأولية والجمعيات الأهلية والمنظمات الأممية التي تعمل على مواجهة وباء الكوليرا، كما مجمل المعلومات عن الوباء، وذلك بالتنسيق مع غرفة إدارة الكوارث في السرايا الحكومية والصليب الأحمر».
ولفت إلى أن «الجولات الميدانية التي قام بها في الأيام الأخيرة لرصد واقع انتشار الكوليرا في لبنان، أظهرت ضرورة دق ناقوس الخطر نظراً لاهتراء البنى التحتية الذي يشكل عائقاً أساسياً أمام تحدي احتواء المرض»، موضحاً أنه «بالمقارنة مع الدول الأخرى التي تشهد انتشاراً للكوليرا، يتبين أن برودة الطقس تشكل بدورها عاملاً إضافياً يساهم في انتشار الوباء»، مؤكداً أن «المرحلة المقبلة تتطلب عملاً مشتركًا يقوم على تنسيق الجهود وتوحيدها». وأشار، إلى أن «الإدارة الجيدة لمواجهة الوباء تتطلب النقل السريع والسلس والدقيق للمعلومات لتحقيق الإستجابة المطلوبة والمنظمة في الوقت والزمان الصحيحيْن، وهذا ما تهدف إليه المنصة التي نحن بصددها»، مضيفاً: «من المهم أن نجدف جميعاً في الاتجاه نفسه لنتمكن من إيصال القارب إلى بر الأمان».
بدورها وزارة التربية تحرّكت لوضع المدارس الرسمية تحت المعاينة وخصوصاً أنها في أمسّ الحاجة للدعم كونها ملجأ الطبقات الفقيرة، و«هي مطالبة اليوم وفق ما يؤكد د. حلواني بتأمين مياه نظيفة للمدارس الرسمية وتعقيم خزانات المياه وتنظيف الحمامات لأن الأولاد مناعتهم ضعيفة ويمكن أن يلتقطوا باكتيريا الكوليرا وينقلوها الى محيطهم. والتحرك السريع مطلوب لدعم المدارس واتخاذ كل الاحتياطات المفترضة لإبعاد الكوليرا عن الأطفال».
... هل تكفي التوصيات وبعض الحركة الفردية لإبعاد الكوليرا عن لبنان وسكانه وأطفاله؟ وهل الدولة اللبنانية قادرة على تأمين مصادر مياه نقية لجميع سكانها وطلابها أم أنها ستدعوهم مرة جديدة للاتكال على أنفسهم وتأمين مياههم كما أمّنوا كهرباءهم وأدويتهم؟ وهل سيتمكن الشعب المرهَق المحتاج في الأطراف ومعه النازحون السوريون من الوقوف في وجه الوباء كما وقفوا في وجه «كورونا»؟ يبدو أن كل المعجزات ممكنة في لبنان...