انهيارٌ قياسي لليرة أمام دولار الـ 40 ألفاً
لبنان يَمْضي «على الجمر» إلى «نَفَق» فراغ تملؤه الكوابيس
- «حزب الله» اعتبر الترسيم البحري بمثابة «تفاهم أبريل غازيّ» و«تفاهمات بين الحروب»
- ماكرون اتصل بعون مهنئاً بالترسيم ومؤكداً «وفاء فرنسا بالتزاماتها في موضوع التنقيب عن النفط والغاز»
- الرؤوس الحامية تصعّب إمكان ولادة حكومة مكتملة المواصفات
- «حزب الله» حاول رعاية «نصف تسوية» بين ميقاتي وباسيل... وهكذا تَعَطَّلتْ
تتدافع في بيروت، على مدى الأسبوعيْن المقبلين، أولويتان... انتخابُ رئيس جديد للجمهورية قبل 31 الجاري أو تشكيل حكومةٍ «كاملة الصلاحيات»، وسط مخاوف متعاظمة من التسليم بالعجز عن صوغِ تفاهماتٍ تصنع رئيساً والإطاحةِ بإمكان تشكيل حكومةٍ فاعلة بسبب التطاحن السياسي حولها، الأمر الذي يدفع البلاد نحو المزيد من انعدام الجاذبية في ظل أزماتٍ مدمّرة تجتاحها، أقلّه منذ ثلاثة أعوام.
وفيما لا شيء يشي بإمكان تَصاعُد الدخان الأبيض والتفاهم على خَلَفٍ للرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايتُه في اليوم الأخير من هذا الشهر، تتقدّم أولويةُ انتزاعِ حكومةٍ جديدة من فم التعطيل الذي أطال عمرَ حكومة تصريف الأعمال الحالية، وذلك بهدف تَفادي انقسامٍ سياسي - دستوري حول أهليةِ حكومة تصريف الأعمال في القيام مقام الرئيس «المغيَّب» ووراثة صلاحياته، وتالياً إدارة شؤون البلاد.
ومن المتوقع ارتفاعُ وتيرة الاتصالات والوساطات والضغوط لاستيلاد الحكومة كلما اقتربتْ ساعةُ مغادرةِ عون القصر الرئاسي من دون «تسليمٍ وتسلُّم»، وهو مسارٌ شاق يشقّ طريقَه بين أشواك كثيرة تتخذ شكلَ منازلاتٍ قاسية في الكواليس وقتالٍ سياسي بـ«السلاح الأبيض» وحرب «فيتوات» متبادَلة بين اللاعبين الذين «يقفزون من شجرة إلى شجرة أعلى».
وثمة انطباعٌ في بيروت بأن الملف الحكومي، الذي كان من المتوقَّع الإفراج عنه في الخمس دقائق الأخيرة قبل ترْك عون الرئاسة خاويةً، يتجه نحو أفق مقفل بعد سعي رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لاستثمار الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والاستقواء بإنجازٍ يوحي بـ «أبوة» فريقه له، لإملاء مزيد من الشروط على رئيس حكومة «القبَّعتين» (تصريف الأعمال والتأليف) نجيب ميقاتي.
ورغم اضطلاع «حزب الله» بدور «الوسيط» بين ميقاتي وباسيل في محاولةٍ لـ «خفْض التصعيد» وضمان ولادة حكومة مكتملة المواصفات يريدها الحزب لإدارة الفراغ، فإن المعلومات تؤشر إلى أن هذه الوساطة تصطدم بتعنُّت باسيل الذي يريد استبدالَ غالبية الوزراء المسيحيين في حكومة الـ 24 والمجيء بـ «صقور» من اللصيقين به، وهو ما يرفضه ميقاتي.
وعُلم في هذا السياق أن «حزب الله» سعى لإقناع ميقاتي بـ «نصف تسوية» مع باسيل تضمن للأخير استبدال ثلاثة من وزرائه الأمر الذي لم يشأ الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة السيرَ به لصعوبة التعايش مع وزراء صقور في مرحلةٍ بالغة الحساسية ينبغي إدارتها بفريقِ عملٍ متجانس يقوم مقام رئيس الجمهورية.
وتزداد الخشية تبعاً لذلك من أن حكومة «إدارة الفراغ» قد لا ترى النور إلا في حال تدارُك الرؤوس الحامية أخطار العبور إلى ما بعد 31 الجاري بصراعٍ متفلت، دستوري - سياسي، من شأنه حرمان البلاد صدمةً إيجابية تحتاجها لمراكمة ما أُنجز على صعيد الترسيم البحري مع إسرائيل.
وليس عابراً أن تغيبَ المؤشراتُ إلى إسقاطاتٍ سياسيةٍ انفراجيةٍ قريبة للترسيم البحري على ملفيْ الرئاسة والحكومة وذلك «من وحي» الأبعاد العميقة للإفراج عن اتفاقٍ (يُنتظر ختْمه بالتواقيع المطلوبة في الأيام المقبلة) لا يمكن إغفال «خيوطه» الاستراتيجية، رغم محاولة «حزب الله» بلسان رئيس كتلة نوابه محمد رعد إعطاءه «أسباباً تخفيفية» بوصف الاتفاق نسخة «نفطية» من «تفاهم أبريل» (1996) الذي «حيّد المدنيين من الاستهداف، وهذا التفاهم الحالي يحيّد مناطق استخراج الغاز، لأن هناك تقاطعَ مصالحٍ أفضى إلى ذلك».
ووضع رعد الترسيم في سياق ما يشبه «التفاهمات بين الحروب»، بإعلانه «التفاهمات تحصل حتى أثناء ووسط الحروب، ولا تحتاج إلى اعتراف متبادَل»، وذلك قبل أن يوجّه وعلى طريقة «ربْط النزاع» مع مرحلة التنفيذ رسالةً للداخل اللبناني كما للجانب الإسرائيلي بقوله «كل تفاهم أثناء وخلال الحرب يحصل مع العدو، إنما يحصل بضغط سلاح المقاومة، وهذا لا يخفّف من أهمية حذاقة المُفاوِض في السلطة اللبنانية وحرصه على السيادة، ولكن يجب أيضاً أن نعترف بأن سلاح المقاومة هو الضمانة لعدم ذهاب الأطراف إلى أبعد مما ينص عليه مضمون التفاهم وجوهره»، مشيراً إلى «أننا ننتظر توقيعَ العدو على هذا التفاهم، وعندما يوقّع، نذهب إلى البديل الثاني لضمانة تنفيذه، ويبقى البديل الثاني يعتمد على خيار جهوزية المقاومة (...) وهذا التفاهم لن يستقيم ولن يطول أمد العمل به إلا إذا كنا أقوياء».
ولم يقلّ دلالةً أن مفاعيل الهبّة الباردة البحرية قوبلت بـ «صفر تأثير» على الواقع المالي - النقدي في لبنان الذي بدا واضحاً أن دينامية عصْفه باتت أكبر من أن تحتويها مساراتٌ بعوائد بعيدة المدى، بدليل كسْر سعر الدولار في السوق الموازية حاجزاً نفسياً غير مسبوق وهو 40 ألف ليرة حيث سجلّ نحو 40100 ليرة، أمس، وذلك للمرة الأولى منذ بدء الانهيار، وسط خشية من أن يكون من الصعب بعد الآن لجْم العملة الخضراء فيما البلاد التي تعوّدت «السير على الجمر» تتجه إلى نفق الشغور الرئاسي بلا حزام الأمان الأخير الذي يمكن أن تشكله حكومة كاملة المواصفات.
ويُنْذِر «التهامُ» الدولار الإضافي لليرة ودخول مرحلة الفراغ الرئاسي بانكشاف حكومي - سياسي بتبديدِ «الجرعةِ المعنوية» التي شكّلها اتفاقُ الترسيم الذي سيرعى «العلاقات الحدودية البحرية» بين لبنان واسرائيل والذي حدّد الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين «المفتاح الرئيسي» فيه بـ «خط الحماية (خط الطفافات الإسرائيلي)» الذي «لم يكن الحدود الرسمية بين إسرائيل ولبنان، والآن وافق لبنان على الاعتراف به كوضعٍ قائم بينه وبين إسرائيل، وهذا يتيح لإسرائيل القيام بدوريات على طول هذا الخط وإمكان الإشراف عليه. هذا أمر عظيم بالنسبة لإسرائيل».
وعلى وقع علامات استفهامٍ حول هل سيسلّم «حزب الله» بتعريض إنجازِ الترسيم - الذي لم تغِب عن موجباته المتعددة البُعد إقليمياً ودولياً «أثقالُ» الانهيار المالي - للتطايُر في شغورٍ رئاسي فوضوي، يسود اقتناع بأن تَضارُب الحسابات بين «حزب الله» وبعض حلفائه، مثل «التيار الحر»، يجعل الحزب في موقع غير القادر على أن يحسم منفرداً ملفات مثل الدفع نحو تشكيل حكومة فراغٍ يمكن أن يحوّله في الوقت نفسه «فرصةً» للضغط على الجميع نحو رئيسٍ توافقي لا يُغْضِب الخارج وليس مغضوباً عليه من الحزب.
وكان بارزاً في هذا السياق أن رعد صاغ موقفاً من الملف الرئاسي ومآلاته مَزَج بين الشغور الممكن و«الحاصل» وذلك في معرض تشديده على وجوب تأليف حكومة «كاملة المواصفات تستطيع أن تتخذ القرارات وأن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية عندما يشغر موقع الرئاسة».
وأضاف: «بذلك، نقفل ثغرة الخلاف حول إمكان أن تتصرف حكومة تصريف الأعمال بصلاحيات رئيس الجمهورية، وهذا منطق عاقل ولا يهدف للتأجيل انتخاب الرئيس، وإنما يهدف احتياطياً إلى تلافي ثغر قد نواجهها إذا شغر موقع الرئاسة، علماً أن النقاش حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال قد بدأ منذ الآن، وسيضجّ في البلد عندما يحصل الفراغ الدستوري».
وبأي حال، فإن الخشية من «آتٍ أعظم» في لبنان، بدت الدافعَ نحو مواقف بارزة أطلقتْها وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا من بيروت (الجمعة)، إذ نقلتْ رسالةَ تحذير من «خطر الفراغ»، مع تشديد على وجوب «انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء هذا الشهر، وهذه ضرورة أساسية للبنان وهو لا يحتمل خطر الفراغ في السلطة»، ومؤكدة «أن على اللبنانيين اختيار رئيس يستطيع أن يعمل مع اللاعبين الإقليميين والدوليين لتخطّي الأزمة الحالية»، ومعتبرة «أن الشعب اللبناني قادر أن يتّحد عندما يُريد ذلك، وبعد انتخاب رئيس جديد ستكون في المستقبل حكومة تمارس عملها بالكامل».
وفي حين حرصت كولونا على إيضاح أن رسالتها «هي من فرنسا ومن شركائنا في الاتحاد الأوروبي»، وسط علامات استفهام حول إذا كانت باريس باتت تُعْلي أولوية «رئيس بموعده تجنّباً للعواقب الاقتصادية والمالية» على حكومةٍ تغطي على الشغور، أكمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإحاطة المباشرة بالواقع اللبناني باتصالٍ أجراه بالرئيس عون «هنّأه فيه على الموافقة على الصيغة النهائية لترسيم الحدود البحرية الجنوبية»، مؤكداً «وقوف فرنسا إلى جانب لبنان ووفاءها بالتزاماتها في موضوع التنقيب عن النفط والغاز»، في إشارة إلى دور شركة «توتال» في التنقيب في البلوك 9 اللبناني الذي يحتوي حقل قانا المفترَض وامتداده جنوب الخط 23 أي في البلوك 72 الإسرائيلي وتعويض تل أبيب من أرباحها «حقوقها» في «المكمن المحتمل».