ضربات الـ CIA الخفية لروسيا: ميزان الربح والخسارة

جسر القرم
جسر القرم
تصغير
تكبير

تعرضت روسيا في الأسابيع الماضية لهجومٍ في قلب موسكو عندما انفجرت قنبلة أسفل سيارة داريا دوغينا، ما أسفر عن مقتل ابنة الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وزَعَمَ ضباط المخابرات الأميركية أن أوكرانيةً كانت وراء الهجوم الإرهابي.

وبعد بضعة أسابيع، تم تفجير خط الأنابيب الروسي الذي يمد أوروبا بالغاز ويمتد في بحر البلطيق في منطقة تراقبها قوات الناتو. وكان الرئيس الأميريكي جو بايدن قد وعد بأنه "سينهي نورد ستريم 2 مهما كلف الأمر.

تداعيات الانفجارات في خط أنابيب الغاز تقطع الطريق على إمكان أن يَضعف الزعماء الأوروبيون أمام مواطنيهم ويقرروا يوماً عودة تدفق الغاز الروسي إلى القارة بسبب التضخم الشديد وارتفاع أسعار الطاقة.

وفي تطور آخر، انفجرت شاحنة مفخخة الأسبوع الماضي على الجسر الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا أثناء عبور قطار إمدادٍ للقوات الروسية في جنوب أوكرانيا. لكن مصادر المخابرات الأميركية والأوكرانية أعربت عن اعتقادها أن أوكرانيا كانت وراء الهجوم. زقد ردت روسيا بقصف أهداف انتقائية في أكثر من عشرين مدينة أوكرانية فأعادت التوازن المعنوي – وليس الاستراتيجي - إلى ساحة المعركة.

هل تغير هذه الضربات التكتيكية ميزانَ الربح والخسارة في ساحة المعركة الدولية؟ ما الخسائر ومَن له اليد العليا حتى الآن؟

أسباب الحرب في أوكرانيا كثيرة، تبدأ بالوعود اللفظية الأميركية المقدَّمة لموسكو بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؛ تَوَسُّع الناتو في دول «حلف وارسو» السابق؛ الخوف من الوحدة بين الصين وروسيا وتحدي النظام الأميركي؛ الثروة الاقتصادية التي راكمتْها روسيا في العقود الماضية بسبب مواردها الطبيعية؛ الأعمال التجارية الضخمة بين أوروبا وروسيا؛ إستيقاظ الدب الروسي في 2015 أثناء الحرب في سورية للدفاع عن نافذته على مياه البحر الأبيض المتوسط ​​الدافئة من خلال قاعدته في سورية؛ إعادة تأكيد هيمنة الولايات المتحدة على أوروبا التي كانت تخطط لامتلاك جيشها الخاص وفصل نفسها عن «الناتو الميت سريرياً»، كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

تم اختيارُ أوكرانيا كأفضل مسرحِ حربٍ لولائها لواشنطن واستعدادها للتضحية عبر خوض حربٍ بالوكالة مع روسيا. وتم التخطيط لهذا الهدف الأميركي بعنايةٍ منذ انقلاب ميدان 2014 عندما كانت واشنطن - من خلال المحادثات التي نُشرت لفكتوريا نولاند، مُساعِدة وزير الخارجية الأميركي والسفير الأميركي في كييف - تختار المسؤولين الاوكرانيين.

وقال الجنرال جاك كين نائب رئيس أركان الجيش الأميركي السابق إن «الولايات المتحدة استثمرت 66 مليار دولار في نظام كييف وهو مبلغ صغير ساعد في تسليح أوكرانيا وتحفيز الجمهور على شن حرب ضد روسيا. نحن (جنود الولايات المتحدة) لا نخوض القتال، لكن أوكرانيا تقوم بذلك (نيابة عنا)». وأكد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إن بلاده، إلى جانب أكثر من أربعين دولة قد أنشأت مجموعة اتصال في القاعدة الجوية الأميركية في رامشتاين بألمانيا «للتعبير عن الالتزام وتكثيف الدعم العسكري لأوكرانيا».

كانت الولايات المتحدة القوةَ الدافعة لإرسال الأسلحة وتقديم الدعم الاستخباراتي و «القوات الخاصة» لإسناد أوكرانيا. وتالياً، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو متورّطون بشكل مباشر في حرب بالوكالة لإضعاف روسيا وإنفاق أكثر من 200 مليون دولار يومياً لاستمرار الحرب. وتطوّعتْ أوكرانيا كمسرحٍ للدفاع عن «نظام الأمن الدولي العالمي» (الهيمنة الأميركية)، كما قال الجنرال مارك ميلي، رئيس الأركان المشتركة.

حتى الآن، نجحت الولايات المتحدة نسبياً على المستويات العسكرية والاقتصادية وحققت مكاسب هائلة من الحرب على روسيا في أوكرانيا ومنها: إعادة إحياء قوة الناتو، تعليق خط الغاز الروسي نورد ستريم، كسر العلاقات الاقتصادية الروسية - الأوروبية، دفْع أوروبا إلى إرسال أسلحة إلى أوكرانيا لتأكيد المشاركة العسكرية لدول القارة. كل هذه إنجازات هائلة للولايات المتحدة في حربٍ قُتل فيها عشرات الآلاف من الجنود الأوكرانيين، وليس الأميركيين.

في الأشهر الماضية، اجتمعت الولايات المتحدة وحلفاؤها في قاعدة رامشتاين الألمانية وتمكّنوا من التخطيط للجيش الأوكراني لاستعادة آلاف الكيلومترات المربّعة في مقاطعة خاركيف الشمالية. كما قاموا بإبطاء التقدم الروسي في زابوريزهيا وخيرسون. ولا تزال روسيا تسيطر على أكثر من نصف المنطقتين اللتين أعلنت روسيا ضمهما – بعد استفتاء – مع دونيتسك ولوهانسك لتصبح جزءاً من أراضيها. علاوة على ذلك، استعادت القوات الأوكرانية السيطرة على مدينة ليمان، في مقاطعة دونيتسك، في هجوم مضاد ناجح.

تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو مباشرة باستفزاز الرئيس بوتين لاستخدام المزيد من الأسلحة الفتاكة لاتهامه بمزيد من الوحشية وتبرير الدعم العسكري والمالي الغربي المتزايد عندما تواجه دول الاتحاد الأوروبي صعوبات مالية. إذ تهدف الولايات المتحدة لنشْر الخوف بين السكان الأوروبيين من طموحات روسيا التوسعية وإحراج بوتين داخلياً وجعْله يفقد شعبيته.

وتتمثّل الأهداف الغربية في رؤية روسيا تغرق أكثر في الوحل الأوكراني لتدمير اقتصادها أو تغيير النظام. إلا أن موسكو تحتاج إلى أوروبا مزدهرة لتشتري المزيد من الغاز والمواد الطبيعية الأخرى (الليثيوم والنيكل والأسمدة والخشب) ولكن ليس لإفقار الاتحاد الأوروبي، على عكس المصلحة الأميركية.

ما الذي حققتْه روسيا؟

أعلن الرئيس الروسي، وهو ضابط المخابرات الروسية السابق، أن «المخابرات الأوكرانية كانت وراء الهجمات الإرهابية». ومع ذلك، قال مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي في بروكسيل لـ «الراي» إن «بوتين يفهم أي جهاز استخبارات لديه القدرة على تنفيذ هجمات مماثلة والذي يملك المعلومات الاستخباراتية على الأرض والتقنية لإرسال هذه الأنواع من الرسائل المتفجرة إلى روسيا. إذ منذ عام 2014، لا يحدث شيء في أوكرانيا من دون أن يعرف المسؤولون الأميركيون المتورطون بشكل مباشر في قيادة كييف». واتهمت موسكو جهاز المخابرات الأوكراني بالتخريب والهجوم الإرهابي على الجسر. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن أجهزة المخابرات الغربية لم تكن متورطة، على الأقل وكالة المخابرات المركزية الأميركية، كما يعتقد المسؤول الغربي.

يدرك الرئيس الروسي قواعد الاشتباك وأن الحرب المباشرة ضد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مدمّرة لسكان العالم. لذلك، من المصلحة العالمية احتواء الحرب بين القوتين العظميين في مسرح واحد. ومع ذلك، فإن الضربات التكتيكية والضربات الاستخباراتية هي جزء من الحرب لأن النصر لمَن له الكلمة الأخيرة.

لقد سجلت روسيا العديد من المكاسب الإستراتيجية بالإضافة إلى العقوبات الغربية التي ساهمت بضرب الاقتصاد الاوروبي. فالرئيس جو بايدن غاضب من لجوئه إلى احتياطات النفط الأميركية التي تتقلص، وأسعار المواد الغذائية والبنزين آخذة في الارتفاع، وثلثا العالم يرفض الهيمنة الأميركية في انتظار نتيجة الحرب الروسية – الأميركية.

كذلك، أدت الحرب ضد روسيا إلى إفراغ جميع مستودعات الأسلحة الغربية. ويستنفد الغرب أسلحته وأمواله، ويقدّم عشرات المليارات من الدولارات لإبقاء أوكرانيا تقاتل، متجاهلاً التكلفة الباهظة لإعادة الإعمار بعد الحرب والتي تُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات.

لقد اختارت الولايات المتحدة أوكرانيا بالفعل كميدان لمعركتها ضد روسيا. لكن من الصحيح أيضاً القول إن الجيش الروسي يقاتل في الأراضي الأوكرانية. لذلك، يمكن لبوتين أن يتحمل خسارة الأراضي الأوكرانية التي تم احتلالها والتي تقدر بـ 100.000 كيلومتر مربع. وبالتالي، فإن أي انسحاب للجيش الروسي من أي مدينة، لا يمثل خسارة لأراضي روسية.

لا يمكن لروسيا أن تكسب كل معاركها ضد الدول الثلاثين في الناتو. لكنها لا تؤكد انتصار الغرب، وخصوصاً وأن بوتين يحضّر جيشاً جديداً من مئات الآلاف من الرجال سيزجّهم في المعركة هذا الشتاء المتوقَّع أن يكون قاسياً على الجميع في أوروبا.

يمكن لواشنطن أن تتحمل سنوات طويلة من حربِ الاستنزاف هذه. هل لدى موسكو نفس الصبر لتحمُّل معركة طويلة وهل تملك الإرادة للفوز بأي ثمن؟ يبدو الأمر كذلك من خلال تصميم بوتين على الاستيلاء على المزيد من الأراضي الأوكرانية وتدمير المزيد من البنية التحتية للبلاد. ولا شك في أن المتحاربين يستعدون لشتاء قادم حار على أرض المعركة رغم برودته المتوقعة.

يراقب التاريخ اهتزاز الأحادية الأميركية، إذ أن روسيا والصين وإيران والهند وباكستان ودول أخرى مستعدة لنظام عالمي جديد يخلو من الهيمنة، حيث يتم العمل في آسيا على تنشيط الصناعة لتنافس الغرب، ويجري التبادل التجاري بالعملات المحلية. وتملك هذه الدول احتياطات كبيرة من الغذاء، وسط مستقبل مزدهر يلوح لسكانها الذين يمثلون ما يقرب من نصف سكان العالم. بينما يكافح الغرب، الذي يمثل 11 في المئة فقط من سكان العالم، للعثور على طاقة كافية لملء محطات الوقود في ظل إنحدار الصناعة المتداعية والبحث عن احتياطات الغاز لشتاء 2023.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي